سوسن الأبطح
صحافية لبنانية، وأستاذة جامعية. عملت في العديد من المطبوعات، قبل أن تنضم إلى أسرة «الشرق الأوسط» بدءاً من عام 1988، كمراسلة ثقافية من باريس، ثم التحقت بمكتب الجريدة في بيروت عند افتتاحه عام 1995. تكتب بشكل رئيسي في المجال الثقافي والنقدي. حائزة درجة الدكتورة في «الفكر الإسلامي» من جامعة «السوربون الثالثة». أستاذة في «الجامعة اللبنانية»، قسم اللغة العربية، عام 2001، ولها دراسات وأبحاث عدة، في المجالين الأدبي والفكري.
TT

لقمان... تبّاً للسياسة!

آخر ما كنت أتخيله هو أن أكتب عن لقمان سليم مقتولاً. ذلك من الأفكار الشيطانية التي لا تحب أن تمر في خاطرك. مر الرجل بظروف صعبة، وواجه وعارض بشراسة، لكنه لم يكن يحمل سلاحاً، ولا يطلق رصاصاً. هو أيضاً كان يعرف أنه مهدد، لكنه يستبعد أن تمتد إليه يد الغدر. ولو كان يشعر بالخوف فعلاً، لما ترك منزله في ليلة منع تجول، ممطرة، خلت فيها الشوارع، وتعرّت من المارة، ليعود متأخراً في سيارته وحيداً، يقطع مسافة طويلة، لا حارس له ولا حامي إلا إحساسه بالثقة. هل أتته الخيانة من حيث لم يكن يحتسب؟ وهل سنعرف لمرة، ولو لمرة وحيدة، من ارتكب جريمة منكرة في لبنان؟
كانت الليلة البيضاء التي قضتها العائلة في انتظار العثور عليه حياً أو ميتاً - بعد أن انقطع الاتصال به - طويلة وأليمة، ومضنية. حتى اللحظة الأخيرة كنت أمني النفس، بأن الأمر مجرد اختطاف، وتهديد وربما ينتهي بفدية، لكن الفجر انبلج على اكتشاف الكارثة.
ظُلم لقمان سليم، ويُظلم مرة أخرى، حين لا يُنظر إليه إلا كمعارض لـ«حزب الله»، وناشط سياسي. لقمان كان مثقفاً كبيراً، قارئاً وكاتباً ومترجماً ومخرجاً. لمن لا يعرف فإن العربية كانت عنده عشقاً يبلغ حد الترهب. لك أن تقرأ كتاباته، لتعرف كم كان صاحب صياغة وسبك، وعناية بتخير المفردات، وتجويد الجمل. عد إلى منشورات داره، لترى كما أولى اللغةَ عناية لم ترها في أي دار غيرها. يحلو لك أن تجالسه، وافقته الرأي أم خالفته، كنت دائماً، تجد نفسك مستمتعاً، بما يقول، مصغياً له، ينتقل من موضوع إلى آخر، رابطاً الخيوط، مستنتجاً الخلاصات. ظلمته محطات التلفزة، وأسئلة السياسة، وعناوين اللحظة الترويجية العابرة. كان الرجل ضليعاً في تاريخ لبنان الاجتماعي كما السياسي، ومن الشغوفين بالسينما، ودورها وأفلامها ومسارها صعوداً وهبوطاً. عكف مع زوجته مونيكا بورغمان على إنجاز فيلم يستجوب قتلة مجزرة مخيم صبرا وشاتيلا، وأعطاه الكثير من وقته وجهده. وهو أيضاً معني بالحركة الفنية، وآخر ما نظمته جمعيته «أمم» معرض للمصور الموهوب مروان طحطح، أقامه رغم الحجْر والإغلاق. «أمم» التي أسسها وأصبحت جزءاً من بيته الذي يقيم فيه، هي دار للبحث والتوثيق، والدراسات. وأكثر ما شغله هو إعادة جمع بزل ذاكرة الحرب اللبنانية. موضوع تابعه عبر إصدار الكتب، وتنظيم المعارض، وإقامة حلقات نقاش.
لاحق أسماء المفقودين الهامشيين الذين لم يُعن بهم أحد، كرمهم، جدول أسماءهم. بحث عن مصير المقاتلين الصغار الذين دفعوا ثمن همجية الرؤوس الكبيرة. حب الأرشفة غرام ورثه لقمان عن والدته البديعة الكاتبة سلمى مرشاق، التي بمقدورها أن تحدثك لساعات عن مشاريع ضاعت، وأخرى يمكن لنا التقاطها قبل أن تفلت، لنقبض على بعض من كتب ومنشورات ورسائل ووثائق تمكننا من رؤية الحقيقة من زوايا مغايرة. قلبي عند سلمى التي كان لقمان أرقها الدائم، وتجد في الكتب سلوتها، وفي البحث عزاءها. سلمى التي شاركها ولداها لقمان ورشا في مهمة شحن واستقبال مكتبة صديق العائلة الكاتب وديع فلسطين من القاهرة إلى بيروت، بعد أن أصر على وضعها في عهدة آل سليم، إدراكاً منه، لحبها الشديد للمعرفة، وكان للقمان حصته من مهمة توضيب المكتبة وتنظيم موادها.
أول ما عرفت لقمان كان ناشراً يؤسس لتمكين «دار الجديد»، قبل ربع قرن. كانت الدنيا غير التي نعيشها اليوم. لبنان بلد يزهوه الأمل، وهو يخرج من حرب لعينة. ولقمان منشغل بالعمل على مؤلفات أنيقة في الشكل، غنية في المضمون لنجوم في الأدب والفكر، حينها طلبت منه وصلي بالعلّامة عبد الله العلايلي وقد بدأت الدار تعيد نشر إصداراته، فأحالني إلى شقيقته رشا التي اصطحبتني إلى دارة الشيخ. من يومها لم تنقطع الصلة بآل سليم، ولم يتوقف لقمان رغم كل الضجيج حول مواقفه السياسية عن العمل الفكري.
أصدر مع شقيقته وشريكته رشا، بمناسبة مرور عشرة أعوام على تأسيس الدار شهادة جميلة حملت عنوان «في قبر في مكان مزدحم، بيتنا زجاج ونرشق بالورد والحجارة»، وفي مئوية أمين الريحاني أشرف مع رشا أيضاً على إصدار «عود الريحاني عل العربية» كتاب حمل شهادات دسمة.
وما لا يقال عن لقمان هو أنه ترجم كتباً صعبة من الألمانية والفرنسية، نقل ديوان باول تسيلان «الخشاش والذاكرة»، وكذلك «توقيعات» إميل سيوران، و«في يمين المولى» لجيرار حداد و«أنا الضحية والجلاد أنا» لجوزيف سعادة. كاتب وباحث ومترجم ومخرج ومنتج أيضاً. كلمة ناشط لا تليق بلقمان، فهو ليس مجرد هاوٍ بل مواطن لبناني، نحت، وتعب، وجاهد، وكد، أخطأ مرة، وأصاب مرة، وظن دائماً، ولربما جنح به الحلم، ليعتقد أن الدستور اللبناني كفيل وحده بحمايته، وأن القانون يتوجب عليه أن يدافع عنه.
حين أرى الدمعة في عيون نساء البيت، الأم والأخت والزوجة، أسأل نفسي، هل ثمة حقاً، في هذا العالم ما يستحق بذل روح من أجله؟ هل يوجد على وجه الأرض ما يستحق أن يدفع ثمنه كل هذا الألم والشقاء؟ رصاصات في الرأس، وأخرى في الظهر، عار أن تفرغ في جسد شخص ليس له من سلاح سوى الكلمة والموقف.
أود لو أكرر ما يقوله أصحاب العزائم والهمم من شعارات وجمل رنانة، لكنني أفضّل في هذه اللحظة الحزينة، لو بقي لقمان ينحت في الثقافة والنشر والكتابة، ولم يترك للسياسة فرصة أن تختطفه من رشا وسلمى ومونيكا، وتوقع بهن ظلماً تنوء به الجبال.