داود الفرحان
حاصل على بكالوريوس الصحافة من جامعة بغداد عام 1968. نائب نقيب الصحافيين العراقيين لثلاث دورات، الأمين العام المساعد لاتحاد الصحافيين العرب. مدير «مركز المعلومات والبحوث» في وزارة الثقافة والإعلام العراقية. معاون المدير العام لوكالة الأنباء العراقية. المستشار الإعلامي للسفارة العراقية في القاهرة (1989 - 1990). كاتب عمود صحافي في الصحف العراقية منذ عام 1966، وكاتب عمود في مجلات: «المجلة» السعودية، و«الأهرام العربي»، و«الصدى» الإماراتية، و«اليمامة» السعودية، و«التضامن» اللندنية. رئيس تحرير صحف ومجلات عراقية أسبوعية عدة ومؤلف لعدد من الكتب.
TT

تهريب البشر... جريمة تبحث عن العدالة

في الأيام الأخيرة من شهر ديسمبر (كانون الأول) 2020، انتشلت قوات خفر السواحل التونسية جثث عشرين مهاجراً غير قانوني من أفريقيا (جنوب الصحراء)، كانت عائمة على مياه البحر الأبيض المتوسط قبالة سواحل محافظة صفاقس، وتبين أن مركبهم الصغير غرق بركابه البالغ عددهم أربعين مهاجراً عن طريق عصابات تهريب البشر. لم ينجُ من الحادث سوى خمسة ركاب.
قصة محزنة تتكرر منذ سنوات في الطريق إلى السواحل الإيطالية أو اليونانية أو التركية، ويفلت من الحساب أكثر المجرمين المسؤولين عن هذه الجريمة التي تعرف عالمياً بـ«تهريب البشر».
في النصف الأول من العام الماضي، وفي السواحل التونسية، تم اعتراض 8581 شخصاً من الرجال والنساء والأطفال، معظمهم من جنسيات أفريقية، خلال محاولتهم الوصول إلى أوروبا بحراً. إلا أن إحصاءات وكالة «فرونتكس» الأوروبية قدرت أن عدد الرحلات غير القانونية في 2020 تصاعد إلى 28400 رحلة.
وفي السواحل الليبية يواجه الموت مئات المهاجرين غير الشرعيين عن طريق المهربين الذين ينقسمون إلى قسمين، هما العصابات الصغيرة التي تتولى نقلهم من الساحل الأفريقي إلى الساحل الأوروبي، والعصابات الكبيرة التي تعمل في الأسواق الكبيرة العابرة للحدود والقوميات.
المشكلة ليست أفريقية ولا آسيوية فقط حتى لا نشعر بالذنب. فمعظم المهاجرين الأوائل كانوا من أوروبا في القرنين الأخيرين في اتجاه واحد نحو الولايات المتحدة. ثم تحولت المشكلة إلى تجارة دولية اسمها «تهريب العبيد». وهي أكثر تعقيداً من تجارة الهاربين من الحروب في آسيا.
القارة الأميركية نفسها لم تفلت من «تهريب البشر» من داخلها في اتجاه الولايات المتحدة؛ الدولة التي تَكَوَّن شعبها من جنسيات نحو 200 دولة حول العالم. وحتى اليوم ما زالت الولايات المتحدة تتقدم «الملاجئ» الدولية في جذب عصابات تهريب البشر، ما دفع الرئيس الأميركي المنتهية ولايته دونالد ترمب إلى بناء «سور أميركا العظيم» في وجه القادمين من المكسيك ودول أميركا اللاتينية.
الذين زاروا أميركا ينالهم العجب من الأحياء الصينية المنتشرة في الولايات المتحدة كأنها «مستوطنات» شبه مقفلة على الصينيين الذين بدأ أجدادهم وآباؤهم رحلة الستة عشر ألف كيلومتر من بكين إلى نيويورك في القرن الماضي، وخصوصاً بعد قيام جمهورية الصين الشعبية، وحكم الرفيق ماو تسي تونغ في عام 1949. ولماذا نذهب بعيداً إلى الصين، وأمامنا في ديترويت بولاية ميشيغان، وسان دييغو في ولاية كاليفورنيا، وشيكاغو بولاية إلينوي، ونيويورك نفسها، أحياء يمكن أن نطلق عليها عبارة المطرب الشعبي المصري الراحل سيد مكاوي «الأرض بتتكلم عربي». ولهم مساجدهم السنية والشيعية وكنائسهم ونواديهم وصحفهم وإذاعاتهم وقنواتهم التلفزيونية؛ بل وصل الأمر إلى بساتين نخيلهم من الزهدي إلى البرحي.
من المفارقات أن المهربين تهمهم قبل كل شيء «سمعتهم» بين المهاجرين، إلا أن هذه «السمعة» سيئة في معظم الأحوال؛ خصوصاً بعد ما شاهدناه من الجثث التي لفظتها أمواج البحر لأطفال ونساء ورجال من سوريا والعراق وليبيا وتونس ومصر والسودان. وتؤكد هذا الكلام دراسة أنجزها البروفسور باولو كامبانا بعد استقصاء استمر عاماً ونصف عام، عقب غرق سفينة عند ساحل جزيرة لامبيدوزا الإيطالية، واستمع إلى مكالمات هاتفية مسجلة بين مهربين ومهاجرين قبل الحادث الذي أدى إلى وفاة 366 مهاجراً، أغلبهم من الإريتيريين والصوماليين. وتوصل الباحث إلى أن المتاجرين بالبشر يعملون وفق أنظمة «السوق الحرة»، أي أنهم مستقلون بلا «تنسيق واسع النطاق»، مكتفين بتقسيم مسافات الرحلات بين بعضهم وبعض، ويقبض كل منهم حصته على مسافة الطريق البري أو البحري مقدماً في هذه السوق التنافسية المربحة. ووفقاً لـ«اليورو بول»، وهو الشرطة الأوروبية، فإن إيرادات أنشطة مهربي البشر وصلت في عام 2015 إلى 6 مليارات دولار، في ذروة موجات اللاجئين الهاربين من الحروب الأهلية في سوريا وليبيا والسودان وإثيوبيا. وفي إطار هذه «السمعة» المزيفة يعمد بعض المهربين إلى دفع تعويضات مالية لأسر المهاجرين الذين تم تهريبهم إلى الموت غرقاً، وليس إلى إيطاليا أو اليونان أو دول الكتلة الشرقية الشيوعية السابقة.
وعلى عكس ما يقال عن وجود «مافيا» منظمة لشبكات تهريب البشر، سواء في الشاحنات البرية أو سفن الموت البحرية، أو سفن القراصنة لنقل «العبيد» من غابات أفريقيا إلى الولايات المتحدة، فإن دراسة حديثة أجراها معهد علم الجريمة التابع لجامعة «كامبريدج» البريطانية تقول إن مهربي البشر يعملون «بشكل مستقل في بيئة تنافسية»، ويعتمدون على «سمعتهم» بين المهاجرين.
مثلما تعتبر نيويورك عاصمة المال في العالم، وهوليوود عاصمة السينما الأميركية، وبوليوود عاصمة السينما الهندية، وفيينا عاصمة الأوبرا والموسيقى، ومدريد عاصمة مصارعة الثيران، تعتبر جزيرة لامبيدوزا الإيطالية عاصمة تهريب البشر في العالم. وهي تقع جنوب إيطاليا، ولا تزيد مساحتها على 20 كيلومتراً مربعاً، وعدد نفوسها نحو 6000 شخص، وهي جزيرة بركانية تتبع إيطاليا سياسياً، وقارة أفريقيا جغرافياً. كما أنها لا تبعد عن السواحل التونسية أكثر من 138 كيلومتراً. واقترن اسمها بقوارب الهاربين من الحروب والسياسة والفقر في الشرق الأوسط وأفريقيا، فهي تعتبر من الوجهات المفضلة للمهاجرين غير الشرعيين ومهربي البشر. إلا أن أكثر الراغبين في الهجرة يشتكون من سوء المعاملة في الجزيرة؛ لأن السكان يتهمون السلطات الإيطالية بالاهتمام بأحوال المهاجرين غير الشرعيين أكثر من اهتمامها بحال مواطني لامبيدوزا. والحقيقة أن تجارة تهريب البشر ازدادت وتوسعت، ليس عن طريق لامبيدوزا فقط، وإنما عن طريق السواحل التركية واليونانية أيضاً. وإذا كانت الحروب والانقلابات والاضطهاد السياسي والفقر هي أبرز الأسباب التي دفعت ملايين البشر في العالم إلى الهجرة غير الشرعية عن طريق المهربين، فإن صرامة قوانين الهجرة في الدول الأوروبية أو الولايات المتحدة تجبر الباحثين عن أوطان بديلة على اللجوء إلى المهربين. لكن المشكلة ليست سياسية أو اقتصادية فقط، فتهريب البشر بدأ كنوع من التجارة السوداء على أيدي المستعمرين الأوروبيين الذين احترفوا بيع وشراء الأفراد لأغراض ترتبط بالعمالة القسرية والاستعباد الإنساني بشكل ينتهك حقوق الضحايا عن طريق البيع والشراء.
وقرأت في تقرير لمنظمة العمل الدولية أن العمالة القسرية - وهي من أنماط الاتجار بالبشر - تحقق أرباحاً سنوياً لا تقل عن 150 مليار دولار. والأسوأ من ذلك أن المنظمة قدَّرت وجود ما يقرب من 21 مليون ضحية بشرية لما يعرف بالعبودية الجديدة. وذكر تقرير لوزارة الخارجية الأميركية صدر في عام 2019، أن بيلاروسيا وإيران وروسيا وتركمانستان تعتبر ضمن «الأسوأ» في مجال توفير الحماية لتجارة تهريب البشر والعمالة القسرية.
طبعاً لم يسكت العالم عن هذه الجريمة الهمجية، فتبنت الجمعية العامة للأمم المتحدة خطة عمل دولية لمحاربة الاتجار بالبشر، تقوم على تعاون الحكومات المختلفة في اتخاذ الإجراءات التي تحد من هذه الظاهرة. وصدرت في هذا الصدد اتفاقية العمل القسري، وبروتوكول مكافحة تهريب المهاجرين براً وبحراً وجواً، وبروتوكول منع وقمع ومعاقبة الاتجار بالأشخاص، وخصوصاً النساء والأطفال. وكانت الجمعية العامة قد تبنت في عام 2010 خطة عمل عالمية لمحاربة هذه الجريمة على أساس تعاون الحكومات في تنفيذ التوصيات. وفي العام نفسه أطلق الأمين العام الأسبق للأمم المتحدة بان كي مون صندوق التبرعات الاستئماني للأمم المتحدة لضحايا الاتجار بالأشخاص لتقديم العون الإنساني والقانوني والمادي لهم وإنقاذهم. وسجلت الأمم المتحدة في عام 2019 رقماً صادماً مضمونه أن الضحايا من 142 دولة بين عامي 2012 و2016 معظمهم من شرق آسيا وجنوبها، بالإضافة إلى الشرق الأوسط. إلا أن الحقيقة الصادمة الأخرى هي أن الدول المعنية لا تبذل جهوداً كافية لتحريم الاتجار بالبشر دينياً وأخلاقياً وإنسانياً.
«تهريب البشر» جريمة لا ينبغي أن نرميها كلها على أكتاف المهربين؛ فحكومات دول اللجوء ينبغي عليها أن تتحلى بالعدالة، وتخفف من القيود التي تفرضها على المرغمين على الهجرة لأسباب قاهرة، مثل لم شمل العائلات المطاردة، أو هرباً من الموت، فليس من العدل أن نقول لهم: «المنع من أمامكم، والبحر من ورائكم». المسألة الآن في «الثلاجة» بسبب مضاعفات جائحة «كورونا»، وهو أمر يستدعي أن تبحث الحكومات المعنية المشكلة مرتدية الكمامة.