حسين شبكشي
رجل أعمال سعودي، ومستشار اقتصادي لعدد من الشركات الخليجية الكبرى، وعضو مجلس إدارة ورئيس مجلس إدارة في عدد من الشركات السعودية والأجنبية. نشر العديد من المقالات في مجالات مختصة، وفي صحف ومجلات عامة في العالم العربي. اختير عام 1995 «أحد قادة الغد» من قبل «المنتدى الاقتصادي العالمي» في دافوس. أول رجل أعمال سعودي وخليجي ينضم إلى «منتدى أمير ويلز لقادة الأعمال».
TT

سردية نقية!

هناك مشهد خالد في تاريخ السينما الأميركية الهوليوودية وتحديداً في فيلم «بضعة رجال طيبين»، الذي يظهر فيه الممثل الشهير جاك نيكلسون، وهو يدلي بشهادته كقائد عسكري مخضرم ومهم في محكمة عسكرية متصدياً لادعاءات المدعي العام الحادة والهجومية، الذي يقوم بدوره الممثل المعروف توم كروز. ويقوم كروز فيه برفع صوته في وجه نيكلسون بقوله: «أنا أريد الحقيقة»، فيصرخ نيكلسون في وجهه بالمقابل ويقول له: «إنك لا تستطيع تحمل الحقيقة».
استرجعت هذا المشهد السينمائي القوي، وأنا أراجع ردود الفعل المختلفة التي حصلت في السابق على كل من يحاول أن يقدم سردية «مختلفة» للرواية التاريخية القديمة والمعاصرة بتفاصيلها الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والدينية والثقافية والفكرية، وذلك استناداً إلى شهادات «أخرى» ومصادر «غير تقليدية» تجيء في بعض الأحيان مشككة، حتى مكذبة للسرديات التاريخية المعتمدة بشكل عام.
تعودت دوماً على احترام وتقدير كل من يكتب وله مشروع فكري متكامل يوثقه ويؤصل له بالاحترام العلمي الحقيقي والعميق، ويسعى لتحدي الصورة النمطية وأن يسبح ضد التيار ويتحمل تبعات ما هو آتٍ، في سبيل الدفاع عما يطرح، ولدعم ما يؤمن به. والساحة العربية مليئة بالنماذج المعنية. فراس السياح على سبيل المثال، وهو عالم الإنثربولوجيا العالمي، ابن مدينة حمص السورية لديه مشروعه العبقري العملاق عن تاريخ الدين عند البشر، والفرق بينه وبين الأسطورة، ومدى علاقة الاثنين بالبصمة الوراثية للتاريخ الإنساني على كوكب الأرض المعروفة بعلم الآثار، فلفراس السياح فكرة بسيطة، مغزاها أنه ما دامت للسردية شواهد على الأرض فهي تاريخ، وطالما لم توجد لها شواهد فهي أسطورة... وقدم فراس السياح لإثبات هذه الرؤية في أطروحاته ما يصل إلى 27 كتاباً محترماً في هذا الاتجاه. وطبعاً لقي الرجل نصيباً وافراً من التخوين والتشكيك والتكفير كما هي العادة مع كل من يقدم طرحاً «مختلفاً» يتحدى فيه السردية «المعتمدة». وبطبيعة الحال يُظهر لنا التاريخ نماذج أخرى مختلفة من أصحاب الأفكار والأطروحات المختلفة والبديلة، مثل المفكر العبقري المصري الدكتور نصر حامد أبو زيد، الذي جاء بمشروع مهم وعميق جداً يعيد النظر فيه إلى أسلوب فهم كلمات القرآن الكريم والنص المقدس، واحترام مدرسة التأويل بقدر احترام مدرسة التفسير، وعبر عن محطات مشروعه الفكري المهم بمؤلفات في غاية الأهمية. وجاء مشروعه «الفكري» بمثابة الزلزال على المدرسة التقليدية ومشروعها القديم، ففصلوه من التدريس الجامعي، بل كفروه وفرقوا زوجته عنه بالإكراه، واضطروه للعيش في منفاه الهولندي حتى آخر عمره.
وهناك علي عبد الرازق الشيخ الأزهري الوقور، الذي قدم أهم ما تم إنتاجه في تاريخ الفكر السياسي الإسلامي، وهو كتاب «الإسلام وأصول الحكم» الذي يوضح فيه بشكل قطعي الفصل التام بين الدين والدولة، وأن الخلافة هي مفهوم سياسي. طبعاً كان هذا طرحاً ثورياً وصادماً جداً في وقتها، جعل الرجل يدفع ثمناً باهظاً جراء موقفه وفكره هذا الذي تسبب في فصله من الأزهر وأن يوضع على قائمة سوداء تحظر التعامل معه تماماً، وظل على هذا الوضع حتى توفاه الله عام 1966. ولو كان الأمر بيدي لجعلت كتابه المذكور مادة إلزامية في المدارس بشتى أنواعها لما فيه من إضاءات مهمة جداً تنافي السردية المعتمدة تاريخياً وباتت تردد دونما تفكير ولا تدبر ولا تمعن.
ولعل آخر من لقي سيول وشلالات النقد والتشكيك والتجريح الراحل الكبير الدكتور السوري محمد شحرور، الذي قدم مجموعة مؤلفات في غاية الأهمية تتركز على مشروعه الرئيسي والشامل؛ قراءة عصرية للقرآن الكريم، وهو المشروع الذي خاطب عقول الأجيال الشابة منذ الثمانينات الميلادية من القرن الماضي، وبنى له قاعدة شعبية عريضة جداً لا يمكن إنكارها ولا إغفالها.
خلط المشروع السياسي بالمشروع الديني يقدم منتجاً «معطلاً» للعلم والفكر الحر، وهذا أحد أهم أسباب «مشكلات الفكر الديني» مع منظومة العلم ومتطلباتها. «للحقيقة أوجه مختلفة»، ولا أحد يملك الملكية الحصرية لها ليتحكم فيها. هذه قاعدة أساسية، متى تحققت تمكن الإنسان من تقديم السردية التاريخية كاملة بدون أن تكون حمالة أوجه أو لها مآرب أخرى.