يبدأ العام الجديد تماماً كما ينتهي. ففي أوائل عام 2020 المنقضي، أصيبت الحكومات حول العالم بصدمة الوباء، وترددت قراراتها ما بين الضرورات العلمية والأخلاقية، في حين انغمس كثير من الناس في السلوكيات الأنانية والمتضاربة التي يبدو أنها تنتمي إلى فئة أفلام «غلينغاري غلين روس» من إنتاج عام 1992 أو «لورد أوف ذا فلايز» من إنتاج عام 1990، عوضاً عن احترام مبادئ الديمقراطية الحديثة.
تثور مثل هذه المشاكل راهناً حول توزيع اللقاح، وهو معجزة الإنجاز العلمي الذي لديه القدرة على القضاء على الوباء. غير أن الاختلاف المؤسف في هذه المرة أنه كانت أمامنا شهور من التفكير في القضايا المطروحة والاستعدادات. ولقد قام العلماء ومجالس فلاسفة الأخلاق بعملهم. ومع ذلك، لا يزال الساسة يبدون جاهلين بالأمر أو خائفين للغاية، أو غير مستعدين لقيادة الجماهير عبر الأسئلة المؤلمة التي يتعين طرحها ثم الإجابة عنها.
وفي صميم المسألة تكمن مشكلة فلسفية تسببت في إرباك الغرب (حيث تبقى الحريات الفردية هي الأكثر أهمية مما كانت عليه الأوضاع في آسيا) طوال الشهور الطويلة من الوباء الفتاك. وفي مواجهة مخاطر المبالغة في تبسيط الأمور، تثور المعركة بين الأفكار التي يمثلها إيمانويل كانط وجون ستيوارت ميل.
ومن أجل مزيد من تعقيد الأمور، يتخفى هذا الجدال الأخلاقي والآيديولوجي تحت صورة الحكم العلمي الرصين. وقالت حكومة المملكة المتحدة في إرشاداتها بشأن لقاحات فيروس كورونا المستجد: «تشير النمذجة الرياضية إلى أنه ما دام اللقاح المتاح آمناً وفعالاً على حد سواء بالنسبة إلى كبار السن، فلا بد من منحهم الأولوية القصوى في تلقي اللقاح».
ولكن يشير علماء الأخلاقيات الطبية من جامعة أكسفورد: ألبيرتو جيوبيليني، وجوليان سافوليسكو، ودومينيك ويلكنسون، إلى ما يلي:
«سواء كان ينبغي منح الأولوية القصوى لكبار السن في التطعيم باللقاح الجديد، فإن الأمر يتوقف على ما نرغب في تحقيقه من خلال سياسة التطعيم. وهذا يشتمل على الاختيارات القيمية. وسوف يحتاج توزيع لقاحات فيروس كورونا المستجد إلى الاستفادة القصوى من الفوائد الصحية العامة ذات الصلة بالتوافر المحدود، أو الإقلال من الأعباء على إدارة الصحة الوطنية، أو إنقاذ أكبر عدد ممكن من الأرواح من فيروس كورونا المستجد. وهذه ليست بالضرورة الشيء نفسه، والاختيار بينها هو خيار أخلاقي بالدرجة الأولى».
لكن السياسيين، كقاعدة عامة، لم يتعاملوا معها من زاوية أنها مشكلة أخلاقية، أو قدموها إلى الجمهور على أنها مشكلة. لذلك، ربما لا ينبغي أن يكون مفاجئاً أن الثقة في المنهج المعتمد - أو في نوع الوحدة العامة الوطنية ذات الصلة - لا تزال بعيدة المنال.
وعندما يتعلق الأمر بما يحاول اللقاح الجديد تحقيقه، فهناك احتمالات واسعان: أولاً، منح اللقاح لأولئك الذين يعانون من مخاطر أكبر للوفاة بسبب الفيروس. وثانياً، تطعيم الناس من أجل الإقلال من انتشار الفيروس وتعظيم الفائدة من وراء اللقاح.
بيد أن هذه التساؤلات تثير مشكلتين خطيرتين؛ إحداهما أخلاقية والأخرى علمية. والمشكلة الأخلاقية تتمثل في أنها تؤدي إلى برامج مختلفة للغاية في توزيع اللقاحات.
ويتسق أحد البرامج بصورة عامة مع مدرسة التفكير التي ترجع إلى القرن الثامن عشر على أقل تقدير، وإلى زمن فيلسوف التنوير إيمانويل كانط، وهو يرى أنه تتعين علينا دائماً معاملة الناس على اعتبارهم غايات في حد ذاتهم وليسوا كوسيلة من وسائل تحقيق الغايات الأخرى. وبتعبير مشترك، فإن هذا يشبه القاعدة الكتابية الذهبية التي تقول: افعل بالآخرين ما تريد أن يفعلوه معك. وبموجب هذا المنهاج، ينبغي علينا أولاً تطعيم الفئة الأكثر عرضة لمخاطر الفيروس. وهذا يعني منح الأولوية لكبار السن ومن يعيشون في دور الرعاية، ثم توزيع اللقاحات بعد ذلك بصورة مطردة على الفئات العمرية الأصغر فالأصغر. وهذا ما يحدث في المملكة المتحدة وألمانيا في الآونة الراهنة.
ويعد المنهاج الآخر أكثر نفعية. إذ ترى مدرسة الفكر هذه التي يرجع تاريخها إلى المفكرين الليبراليين من العصر الفيكتوري بقيادة جون ستيوارت ميل، أنه ينبغي علينا البحث عن أكبر نفع ممكن لأكبر عدد من الناس. وبالتالي، يمكن تبرير التضحية بقليل من الناس بُغية إنقاذ الكثيرين. ومن شأن ذلك أن يؤدي إلى تطعيم الأشخاص الأكثر عرضة للإصابة بالفيروس وانتشاره، حتى إن كانت مخاطر الوفاة بينهم منخفضة. وسوف تذهب اللقاحات إلى الأطباء وعمال الطوارئ أولاً، ثم يتبعهم نزلاء السجون، ثم الناس الذين يتعاملون مع كثير من الأشخاص الآخرين، ثم أولئك الذين يعيشون في المجتمعات الأكثر عرضة لانتشار الفيروس بصورة خاصة. وهذا هو المنهاج المتبع إلى درجة كبيرة في أغلب الولايات في الولايات المتحدة الأميركية.
(يفكر أنصار المدرسة النفعية أيضاً في تعظيم مقدار الحياة التي يجري إنقاذها. وعند الاستعانة بالاصطلاحات الأخلاقية، فإن كنا نهدف إلى تعظيم عدد «سنوات العمر المعدلة حسب الجودة»، فإن إنقاذ كبار السن الذين يعيشون تحت ظل القيود المفروضة بالفعل يصبح من الصعب تبريره).
ويتشابه هذا التقسيم بين المنهجين إلى حد كبير مع حالة الجدل بشأن قرارات الإغلاق، حيث يجادل أتباع كانط لفعل كل شيء من أجل إنقاذ كل روح يمكن إنقاذها (من خلال قرارات الإغلاق الكاملة)، في حين أن أنصار المدرسة النفعية يجادلون بأن المنهاج الأكثر توازناً سوف يسفر بصورة أفضل عن نتائج جيدة على المدى الطويل. ولا تزال هذه المسألة مفعمة بالحياة إلى درجة كبيرة. وهناك مشكلة علمية مُضافة إلى المعضلة الكلاسيكية سابقة الطرح.
تعد لقاحات «كوفيد - 19» الجديدة فعالة بصورة ملحوظة في الوقاية من المرض. لكن الأمر غير الواضح حتى الآن - كما تقر بذلك إدارة الأغذية والأدوية الأميركية - هو ما إذا كان التطعيم سوف يمنع الأشخاص الذين يحصلون عليه من عدوى الآخرين، ولهذا السبب لا يزال مطلوباً من الأشخاص الذين حصلوا على التطعيم ارتداء الكمامات الواقية حتى الآن.
ولذلك الموقف انعكاساته على استراتيجياتنا الفلسفية. فإذا كان تطعيم العاملين في المجال الطبي والناشرين الفائقين المحتملين للعدوى أولاً سوف يساعد في الحد من انتشار الفيروس، فليس أمامنا من خيار آخر سوى منح اللقاح للأقدم أولاً، بمعنى أنصار المدرسة النفعية.
وإذا حدث ذلك، فمن اليسير للغاية الدفاع عن البرنامج المعني باستهداف الأشخاص الأكثر عرضة لنشر المرض. ولأجل اتخاذ القرار، فإننا في حاجة إلى العلماء كي يخبروننا ما إذا كان اللقاح يمكن أن يوقف العدوى، أم لا، ومن أجل تحديد أفضل من يجب منحه اللقاح لوقف الوباء بوتيرة أسرع، وكلاهما من الأسئلة العميقة والعسيرة في آن واحد.
* بالاتفاق مع «بلومبرغ»
8:37 دقيقه
TT
لمكافحة {كورونا} يحتاج الساسة إلى التفكير مثل الفلاسفة
المزيد من مقالات الرأي
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة