د. ثامر محمود العاني
أكاديمي وباحث عراقي شغل العديد من المناصب الإدارية والأكاديمية، بينها إدارة العلاقات الاقتصادية بجامعة الدول العربية. كما عمل محاضرا في مناهج الاقتصاد القياسي بجامعة بغداد ومعهد البحوث والدراسات العربية. يحلل في كتاباته مستجدات الاقتصاد السياسي الدولي.
TT

تخفيض الدينار العراقي ليس الحل... بل حزمة إصلاحات متكاملة

أقدمت الحكومة العراقية على تخفيض قيمة العملة المحلية الدينار مقابل الدولار؛ إذ وصل سعر الصرف بحدود 1460 ديناراً لكل دولار تقريباً. إن تخفيض قيمة العملة المحلية هو خفض سعر الصرف الرسمي لتلك العملة مقابل عملة دولية مرجعية، حيث يقل عدد الوحدات من العملة الأجنبية التي يمكن الحصول عليها مقابل وحدة من العملة الوطنية، وهو يختلف عن انخفاض سعر الصرف الخاضع لآلية العرض والطلب في السوق.
إن العلاقة بين تخفيض قيمة العملة والحد من عجز الميزان التجاري وتحفيز الاقتصاد الوطني ليست علاقة آلية، وإنما علاقة مشروطة بعوامل ومحددات عديدة، فإن تخفيض العملة ينطلق من محاولة تخفيض عجز الموازنة العامة للدولة بسبب تنامي النفقات، وإن العوامل والمحددات في هذه الحالة تكون أكثر وأوسع، وتختلف طبيعة ومحتوى آثارها؛ فقد يكون لهذا التخفيض تأثيرات عكسية وسلبية، وقد تقود إلى الانكماش بسبب الضغوط التضخمية التي تنتج من ارتفاع أسعار الموارد الأولية والمستوردة، وفي ظروف ضعف المؤسساتية، واضطراب الأوضاع العامة، فإن تخفيض قيمة العملة يكون له تداعيات سلبية، وهذا ما سيحصل مستقبلاً في الاقتصاد العراقي.
إن هدف التخفيض في حالة العراق يأتي لتخفيف عجز الموازنة العامة من خلال شراء الدولار من وزارة المالية بسعر صرف أعلى، وهو أمر تتم معالجته أولاً من خلال إصلاحات هيكلية تهدف إلى زيادة إيرادات الدولة والسيطرة على النفقات غير المنتجة ومعالجة العديد من أوجه الخلل والقصور في السياسات العامة الاقتصادية، التجارية، المالية والاستثمارية قبل اللجوء إلى خيار تخفيض قيمة الدينار العراقي. ترتبط عملية تخفيض قيمة العملة المحلية مقابل العملات الأجنبية على جملة من العوامل، أهمها، حالة ميزان المدفوعات، وتأثير التخفيض على أسعار المستهلك، وتأثير التخفيض في زيادة النمو الاقتصادي والتجارة، وتأثير التخفيض على الدين العام، تأثير التخفيض على الثقة بالعملة المحلية، وقدرة السياستين المالية والنقدية على مواجهة الآثار والتضخم.
إن تخفيض قيمة الدينار العراقي في الوقت الحاضر لا يبدو ضرورة ملحة؛ إذ إن السياستين النقدية والمالية غير قادرتين على اتخاذ الإجراءات الكافية لكبح الضغوط التضخمية الناتجة من تخفيض سعر صرف العملة المحلية بسبب عدم فاعلية أدوات السياستين لأسباب سياسية واقتصادية ومالية؛ ما يسبب حالة من عدم الاستقرار الأمني والسياسي والاجتماعي والاقتصادي بسبب طبيعة سلوك السوق المالية والمصرفية والقطاع الأهلي، كما أن قرار تخفيض قيمة العملة الوطنية في الظروف غير المستقرة قرار ذو آثار سلبية مضاعفة ويخلق توقعات لمزيد من التخفيض؛ ما يربك أوضاع السوق وزيادة الطلب على العملة الأجنبية مع ضعف الثقة بالعملة الوطنية، كما يؤدي تخفيض قيمة العملة المحلية إلى ضغوط تضخمية، يتحمل معظم المواطنين آثارها السلبية نتيجة لخفض القدرة الشرائية للمواطنين، علماً بأن استقرار سعر الصرف يلعب دوراً مهماً في تدفقات الاستثمارات الأجنبية، ويعطي خيار اللجوء إلى تعديل سعر الصرف إشارة سلبية للمستثمرين.
يعتمد غالبية المواطنين على تقاضي رواتبهم وأجورهم من الحكومة، وتخفيض قيمة العملة يكون بمثابة ضريبة تستقطع من دخولهم بنسبة التضخم، إلا إذا قامت الحكومة بزيادة الرواتب والأجور لمواجهة التضخم، أي تعويضهم مقدار الانخفاض في قدراتهم الشرائية، وعندها تكون الحكومة قد خصصت نسبة كبيرة مما حصلت عليه من فرق سعر الصرف لتعويض الموظفين والمتقاعدين. تكمن دواعي التوجه نحو تخفيض سعر صرف الدينار العراقي في محاولة تغطية عجز الموازنة العامة للدولة بسبب ضعف السيطرة على النفقات العامة والإخفاق في تعظيم الإيرادات غير النفطية، وهو خيار يجدونه سهلاً، في الوقت الذي ينبغي معالجة الخلل وضعف الانضباط المالي وإعادة بناء الموازنة العامة للدولة في إطار متطلبات الاقتصاد الكلي، وفي ضوء متطلبات السياسة المالية والسياسة النقدية، وفي ضوء الفرص الواسعة والمتاحة لتعظيم إيرادات الدولة (من غير النفط)، وفي ضوء ضرورات إعادة النظر بهيكل مؤسسات الدولة التي تعاني من الترهل الخطير والفساد.
يلجأ العراق إلى تخفيض العملة من أجل سد عجز الموازنة العامة بسبب تزايد النفقات، ومع ذلك فإن هدف تحسين الميزان التجاري إذا كان مستهدفاً، فإن تخفيض سعر صرف الدينار لا يحقق هذا الهدف بالمستوى المطلوب؛ إذ إن القطاعات الحقيقية، الصناعة والصناعات التحولية والزراعة والخدمات في أدنى مستوياتها، ونسبة مساهمتها في الناتج المحلي الإجمالي منخفضة، وإن صادرات العراق غير النفطية قليلة جداً، ولا تشكل أي نسبة في الميزان التجاري، والقطاع الخاص غير فاعل أيضاً، والنهوض بهذه القطاعات سيستغرق سنوات طويلة مع وجود خطط وسياسات فعالة، وعادة يجري تخفيض قيمة العملة المحلية في الدول التي لها قدرات تصديرية عالية، كما أن السياسة الجمركية غير فاعلة في الوقت الحاضر، وهي تمثل الأساس لحماية المنتوج المحلي لتحفيز الإنتاج.
إن فوضى الاستيرادات وفقدان السيطرة والرقابة على المنافذ الحدودية وحجم التزييف والفساد والتهريب، تتسبب في استباحة السوق العراقية وإغراقها بالسلع الرخيصة التي تكبح محاولات الارتقاء بالإنتاج المحلي، وينبغي قبل اللجوء إلى خيار تخفيض قيمة الدينار تصحيح تلك الأوضاع بما يؤمّن تطبيق القوانين الجمركية وحماية المنتج المحلي ومكافحة الإغراق، وحماية المستهلك.
إن الهدف من التخفيض يستهدف تحسين المركز المالي للحكومة، وسد عجز الموازنة العامة بسبب الزيادة المستمرة في نفقات الموازنة؛ إذ ينبغي قبل اللجوء إلى خيار تخفيض قيمة الدينار، استنفاد الحلول الأخرى، وقد تبين من خلال دراسات عديدة أن التخفيض لا يحقق هدف سد العجز في الموازنة إلا بقدر قليل جداً لا يقارن بالتأثيرات السلبية العديدة التي يمكن أن تحصل من تخفيض العملة، وإن الإصلاح الشامل يحقق أهدافاً تصحيحية، هيكلية توفر استدامة مالية، وتكون له آثار إيجابية، اقتصادية ومالية واجتماعية.
* أستاذ الاقتصاد القياسي بجامعة بغداد – مدير إدارة العلاقات الاقتصادية السابق بجامعة الدول العربية