رامي الريس
كاتب وصحافي وأستاذ جامعي من لبنان، وباحث ومترجم، يكتب في القضايا العربية والدولية، يحمل شهادة ماجستير في العلوم السياسية من الجامعة الأميركية في بيروت، وله مشاركات في العشرات من المؤتمرات وورش العمل في لبنان والخارج.
TT

هواة السياسة في لبنان: أثمان باهظة في المجتمع والاقتصاد... والأخلاق

لبنان الذي كان فيما مضى ملتقى العرب، ومستشفاهم وجامعتهم ومركز اصطيافهم يتلاشى وتتساقط مرتكزاته بشكل دراماتيكي وحزين. ففي هذا البلد كل المقومات التي تتيح له أن يلعب دوراً متقدماً في المنطقة، كما فعل في الماضي، من الموارد البشريّة إلى المرافق والمنشآت، والمؤسسات التربوية ودور النشر. لقد كانت عاصمته مركزاً للنقاش الفكري الديمقراطي الحر كما كانت ملجأ لكل الأحرار الذين يتركون بلدانهم خوفاً من بطش أنظمتها الديكتاتورية والقمعية، وكم كانت كثيرة في حقبة الخمسينات والستينات من القرن الماضي.
مع التحولات السياسيّة غير المسبوقة التي يشهدها الشرق الأوسط والمنطقة العربيّة عموماً وفي طليعتها خلط الأوراق الهائل الذي ولّدته هذه التحولات، وفي ظل استمرار حال المراوحة القاتلة في الواقع اللبناني الداخلي بفعل الأداء السيئ للقوى القابضة على السلطة والقرار السياسي اللبناني؛ لم يعد فقدان لبنان لدوره الطليعي السابق مجرد وهم بل أصبح حقيقة تترسخ بصورة متواصلة من خلال الأحداث المتلاحقة.
حتى في أحلك سنين الحرب (التي غالباً ما ينمو على ضفافها ما يُسمّى اقتصاد الحرب) لم يختبر اللبنانيون أزمة بهذه الضراوة خصوصاً في المجال المعيشي والاجتماعي والاقتصادي. ورغم أن تجربة تدهور سعر صرف العملة الوطنية ليست الأولى في تاريخ البلاد، فإنها لم يسبق أن وصلت إلى هذه الحدود من التدهور، وهو الأمر المرشح لمزيد من التفاقم والتراجع. في منتصف الثمانينات حصلت انهيارات متعددة للعملة الوطنية مما أدّى إلى تضخم هائل وموجات كبيرة من الهجرة يومئذ، إلا أن مجرد الاقتراب من سيناريو فنزويلا اليوم بحد ذاته يؤشر إلى عمق المأزق الذي يعيشه لبنان.
المشكلة في سقوط دور لبنان ووظيفته العربية والإقليمية هي أن ليس ثمة بديل عربي يمكن له أن يؤدي هذا الدور، لعدد من العوامل والاعتبارات السياسيّة والمجتمعيّة وحتى الاقتصاديّة. وهذا الغياب العربي ليس محصوراً في هذه القضية، بل في العديد منها. وبالتالي، هذا العامل سوف يعزّز من أدوار الأطراف الإقليميّة غير العربيّة التي تتوسع أذرعها وأجنداتها نحو الساحات العربيّة الخصبة التي تبقى بمجملها على أهبة الاستعداد للتعاون مع الغريب على أن تتعاون مع القريب.
يبدو النقاش اليوم في إعادة إحياء ما كانت تُسمّى المظلة العربيّة الجامعة، أصبح خارج السياق الزمني بالمطلق وخارج المعادلات السياسيّة الجديدة، التي صارت تحرّك أوضاع المنطقة وترسم موازين القوى فيها بناءً على قواعد جديدة قلما تراعي فيها ظروف البلد ومقتضيات المصلحة الوطنية العليا، بقدر ما تراعي الاعتبارات المصلحيّة والفئوية للاعبين الأساسيين في بلدانهم.
النموذج اللبناني القديم يُحتضر، والأكثر صعوبة أن النموذج اللبناني البديل لم يولَد بعد، كما لم تتضح معالم مرتكزاته السياسيّة والميثاقيّة والدستوريّة التي قد تعكس، وهي حتماً سوف تعكس، موازين القوى السائدة في تلك اللحظة السياسيّة بما يتناقض مع النموذج اللبناني القائم على التعدديّة والتنوّع والعيش المشترك في إطار وحدوي يشكّل تجربة فريدة، لو أُحسنت إدارته بشكل يحفظ الحقوق والواجبات لجميع الأطراف ومكونات المجتمع.
صحيحٌ أن النظام اللبناني الراهن المرتكز على الطائفية والمذهبية والمناطقية والزبائنية يولّد الأزمات المتلاحقة ويراكمها من دون أن يجد لها إلا الحلول المصلحية والجزئية والالتفافية في معظم الأحيان دون الغوص في أعماق المشكلات وجذورها؛ ولكن الصحيح أيضاً أن هذا النمط المتراخي أتاح المجال لهوامش واسعة من الحريات العامة ذهب البعض لاستغلالها بما يتناسب مع مصالحه، فكرس سياسات التعطيل والتهميش والإلغاء والاضطراب عوض الاستفادة منها في سبيل تعزيز الاستقرار والانفتاح والتنوع مع كل ما يعنيه ذلك من ثراء سياسي واجتماعي وفكري وإنساني.
ليست التسويات عيباً في السياسة، بل هي أحد أرقى الحلول الدبلوماسية التي غالباً ما يؤدي الركون إليها تلافي انتقال النزاعات إلى الحيز العنفي وتوليد المآسي المجتمعية والإنسانية فضلاً عن توريث الأحقاد وتعزيز ثقافة الكراهية على حساب ثقافة التعايش وثقافة الانغلاق على ثقافة الانفتاح. ولكن للتسويات معاييرها ومرتكزتها، فلا تكون على حساب طرف من الأطراف لتثبيت انكساره وهزيمته والإطباق عليه، بل تستند إلى مراعاة شروط اندماجه ومصالحته وإشراكه في الحل السياسي.
لقد وُلدت بذور الحرب العالمية الثانية مع انتهاء الحرب العالمية الأولى من خلال اتفاقية فرساي التي سحقت الألمان سياسياً بعد سحقهم عسكرياً. بطبيعة الحال، كان جنون أدولف هتلر وحده كفيلاً بإشعال الحرب العالمية مجدداً بسبب سياساته التوسعية لاحتلال أوروبا، ولكن التعاطي الغربي مع الانكسار الألماني منحه الفرصة لاستقطاب جمهوره العريض بالارتكاز إلى سياسات شعبوية وتدميرية، ورغم ذلك فاز من خلال صناديق الاقتراع.
في لبنان، أي تجاوز لسياسة «لا غالب ولا مغلوب» يعني عملياً توفير الوصفة الجاهزة لإشعال فتيل النزاع الأهلي مجدداً، الذي تراقبه وتغذيه الأطراف الإقليمية التي تخترق الساحة الداخلية وتوظفها لمصالحها الخاصة، ولتطبيق مشاريعها التوسعية وأحلامها الإمبراطورية القديمة. وثمة من ينجرّ لتأدية هذا الدور من الداخل اللبناني بكل فخر واعتزاز!
لطالما كانت كلفة سقوط لبنان أكبر من كلفة التسوية فيه، وشروطها ممكن أن تتوفر في حال كانت موازين القوى متعادلة ولو بشكل نسبي بما يَحول دون استلحاق لبنان بمحاور لا تمثل مساره التاريخي ودوره الطليعي المنفتح على الشرق والغرب.
في لبنان، ثمة هواة في السياسة يكبّدونه الأثمان الباهظة في السياسة والاقتصاد... والأخلاق.