ليونيد بيرشيدسكي
TT

كيف صمد بوتين في وجه «كورونا»؟

أسفرت أساليب الرئيس فلاديمير بوتين المتعمدة للتخفيف من الأضرار الاقتصادية الهائلة الناجمة عن جائحة فيروس «كورونا» عن تركيز أغلب الآلام في المدن الروسية الكبرى التي تشهد أعلى معدلات النشاط الاحتجاجي بصورة تقليدية. وربما يعتقد المرء أن إلحاق الأذى بالأماكن التي من المرجح أن تشتكي وتتذمر هي من استراتيجيات الحكم الخاسرة. وبرغم ذلك، فإن هذا يعد خطأً ظاهراً في تقدير الأمور بالنسبة إلى الحالة الروسية، لا سيما مع إلقاء التبعة واللوم على جهات أخرى.
يتسم النظام الذي شيده فلاديمير بوتين في البلاد بالمركزية الشديدة - وبأكثر مما هي عليه الأوضاع في بلدان أخرى تتخذ شكل الحكم الفيدرالي. وتوضح اتجاهات الاتفاق والاقتراض الحكومي الروسية خلال العام الجاري كيفية عمل المركزية الروسية.
سعى عدد من حكام الأقاليم الروسية المختلفة إلى جبر العجز في الميزانية المحلية الناجم عن وباء «كورونا» بارتفاع معدلات الاقتراض. ولقد ارتفعت ديون مدينة سان بطرسبرغ إلى نسبة 182 في المائة فيما بين 1 فبراير (شباط) و1 نوفمبر (تشرين الثاني) من العام الجاري. وزادت الديون في إقليم بيرم في جبال الأورال بنسبة 86 في المائة. كما أضافت جمهورية إنغوشيتيا الفقيرة في إقليم القوقاز نسبة 64 في المائة إلى ديونها المحلية. لكن مع النظر إلى متوسط العائد السنوي على السندات الإقليمية الروسية فقد بلغ 6.4 نقطة مئوية مقارنة بنسبة 4.9 نقطة مئوية للسندات السيادية، فيما يعد بمثابة استراتيجية يائسة للغاية. وهناك أكثر من نصف الأقاليم الروسية - 44 إقليماً من أصل 85 إقليماً - قد حافظت على استقرار مستويات الديون أو هي عملت على تخفيضها، وذلك بالاعتماد على المعونات المالية الآتية من موسكو، تلك المعونات التي ارتفعت بنسبة 58 في المائة على أساس سنوي خلال الشهور الثمانية الأولى من عام 2020 الجاري.
ولهذا السبب تحديداً اضطرت الحكومة المركزية الروسية إلى زيادة أعباء الديون بنسبة مئوية أكبر من الأقاليم الأخرى. ووفقاً إلى البيانات الصادرة عن وزارة المالية الروسية، فلقد ارتفع الدين العام في الاتحاد الروسي بواقع 20.6 في المائة فيما بين 1 فبراير و1 نوفمبر من العام الجاري: وكان هناك انخفاض بواقع 5 نقاط مئوية في الدين الخارجي، مع زيادة بنسبة 31 في المائة بالاقتراض المحلي، لا سيما مع سعي الحكومة المركزية إلى الإقلال من مخاطر العملة والعقوبات الاقتصادية. غير أن الديون المعلقة المستحقة على الحكومات الإقليمية الروسية قد ارتفعت بنسبة 9.4 في المائة عن الفترة نفسها. وعلى سبيل المقارنة، وخلال الشهور الستة الأولى من العام الجاري، ارتفع الدين الفيدرالي الألماني بنسبة 9.3 في المائة، في حين ارتفعت ديون الولايات الألمانية بواقع 8 نقاط مئوية كاملة بأكثر مما كانت عليه الأوضاع في نهاية عام 2019.
وكانت تحركات الحكومة المركزية الروسية في دعم الأسر الروسية - من خلال زيادة المدفوعات الحكومية للأسر التي لديها أطفال، وزيادة المعاشات التقاعدية، والتخفيضات الضريبية على الشركات الصغيرة، وزيادة إعانات البطالة داخلياً - قد أسفرت عن نتائج غير متساوية عبر الأقاليم الجغرافية المختلفة والجماعات الاجتماعية المتنوعة في طول البلاد وعرضها. ووفقاً إلى التقرير الصادر في أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، بواسطة ميخائيل ماتيتسين وصمويل فريجيه رودريغيز من البنك الدولي وكذلك داريا بوبوفا من جامعة إيسيكس البريطانية، فقد أسفرت السياسات الحكومية الروسية المشار إليها عن استفادة غير متناسبة للمواطنين في الأقاليم الأكثر فقراً من البلاد ذات معدلات المواليد المرتفعة، وكذلك سكان المناطق الريفية، والمدن الصغيرة في البلاد.
ووفقاً للتقرير نفسه، فإن سكان المناطق الريفية والمدن الروسية الصغيرة يعيشون واقعاً هو أفضل حالاً مما كانت عليه الأوضاع قبل جائحة فيروس «كورونا»، في حين أن سكان المدن الكبرى صاروا أسوأ حالاً بكثير. وتتسق هذه الاستنتاجات المثيرة للاستغراب مع بيانات استطلاع الرأي الذي أجراه مركز «ليفادا» المستقل للأبحاث. ففي نوفمبر (تشرين الثاني) من العام الجاري، قالت نسبة 15 في المائة من سكان المناطق الريفية الروسية - وهي أعلى نسبة مسجلة من أي فئة إقليمية أخرى - إن أسرهم باتت أفضل حالاً خلال العام الجاري مقارنة بالعام الماضي. وحصل سكان المدن الصغيرة على ثاني أكبر نسبة في استطلاع الرأي بين الفئات المتفائلة. (يقول أغلب المواطنين الروس، بصرف النظر عن الإقليم الذي يعيشون فيه، إن أوضاعهم قد ساءت بعد الوباء أو لم يطرأ عليها تغيير يُذكر).
وكانت المدن الروسية الكبيرة، من شاكلة موسكو وسان بطرسبرغ، وكذلك المراكز الصناعية الكبرى في الفولغا والأورال وسيبيريا، هي الأصعب من حيث بسط بوتين سيطرته الكاملة عليها. وذلك إلى الحد الذي احتج فيه المواطنون الروس أو هم صوتوا ضد الحكومة خلال العقدين الماضيين، وكانت المدن الكبرى هي محل تلك الاحتجاجات دون غيرها من أقاليم البلاد. لذلك، وبأي طريقة كانت، ليس هناك شيء يدعو إلى مكافأتهم، غير أن الإقلال من الميزات الاقتصادية النسبية التي يحظى بها سكان المدن الكبرى قد يُعد من قبيل اللعب بالنار على الصعيد المحلي. ويبدو، برغم ذلك، كما لو أن المخاطر المتوقعة طفيفة للغاية. ووفقاً إلى شبكة «في تيسيوم» لاستطلاع الرأي المملوكة للحكومة الروسية، فإن الشعب الروسي أقل ميلاً هذا العام إلى الاحتجاج عند المقارنة بالعام الماضي، كما أن علماء الاجتماع في مركز «ليفادا» المستقل للأبحاث يرفضون تماماً فكرة ميل البلاد إلى الانفجار الداخلي إثر حالة السخط العامة الراهنة.
ويمارس الكرملين وحكومة رئيس الوزراء الروسي ميخائيل ميشوستين لعبة سياسية داخلية ساخرة، حيث ألقوا بمسؤولية التعامل مع أزمة وباء «كورونا» على عاتق حكام الأقاليم الروسية المختلفة، مع السيطرة التامة والقوية في الوقت نفسه على زمام الأمور المالية. وكان حكام الأقاليم هم الذين أقروا فرض القيود العامة المختلفة، وكان لزاماً عليهم التأكد من توافر الأسرة في المستشفيات، بعد أن أسفرت إصلاحات الرعاية الصحية التي أقرتها الحكومة المركزية في موسكو إلى تخفيض عدد الأسرة بنسبة بلغت 15 في المائة بين عامي 2015 و2018. وفي الأثناء ذاتها، كانت مسؤولية توزيع المعونات على العائلات والمتقاعدين في أيدي الرئيس بوتين ورئيس وزرائه ميشوستين، في خطوة يبدو أنها قد حققت نجاحاً كبيراً. فلقد انخفضت نسبة تأييد بوتين بدرجة طفيفة مع ارتفاع ملحوظ في شعبية رئيس الوزراء، مع تلقي حكام الأقاليم الضربات الموجعة!
بطبيعة الحال، تعكس النظرة البعيدة واقعاً مخادعاً عندما يتعلق الأمر بدولة كبيرة ومتنوعة مثل الاتحاد الروسي - ومن الصعب اعتماد نتائج استطلاعات الرأي على محمل الجدية مع اعتبار الأساليب القمعية المتزايدة لدى النظام الروسي. ومن اليسير اعتماد مزيج من الدلائل الكلية والإخبارية من أجل رسم صورة أقرب إلى الواقع لنظام يعاني من كثرة التصدعات الداخلية.

* بالاتفاق مع «بلومبرغ»