أكرم البني
كاتب وصحافي سوري وناشط في مجال حقوق الإنسان وإحياء المجتمع المدني. مواليد مدينة حماة - سوريا 1956. درس الطب البشري في جامعة حلب. يكتب في الشأن السوري.
TT

حقوق الإنسان وطوارئ جائحة «كورونا»!

مرت الذكرى السنوية للإعلان العالمي لحقوق الإنسان أمس (العاشر من الشهر الحالي)، مثقلة بأعباء الطوارئ الصحية والإجراءات الاستثنائية التي استدعاها الحد من انتشار فيروس «كورونا»، كعزل المدن وحظر التجمعات وتقنين المشاركة في النشاطات الثقافية والرياضية والترفيهية، بما في ذلك وقف بعض الأعمال والمهن وتقييد حرية التنقل والسفر؛ الأمر الذي أثار جدلاً لا يزال محتدماً حول تأثير هذه الإجراءات الطارئة، على حريات البشر وحقوقهم وعلى المبادئ والقيم المتنوعة التي ضمتها الشرعة الدولية لحقوق الإنسان.
بداية، ثمة من يشجعون إعلان حالة طوارئ صحية ويرفعون شعار مواجهة «كورونا» أولاً بصفته شعار المرحلة الذي يجب ألا يعلو عليه أي شعار، مسوّغين بذلك القيود كافة التي تفرضها الحكومات على جوانب من حريات الأشخاص وحقوقهم ما دامت تساعد على تفادي المخاطر التي تتعرض لها حياة المواطنين عموماً، ولسان حالهم يقول، ما دام انتشار جائحة «كورونا» يشكل تهديداً للبشر أجمعين، فإن الضرورة الملحة هي حماية الحق في الصحة والحياة أولاً، باعتباره أحد الحقوق الأساسية لوجود الإنسان ذاته، وإن تم ذلك على حساب بعض حقوقه الأخرى، ويستندون في موقفهم هذا إلى أساس قانوني أممي تتضمنه الشرعة الدولية لحقوق الإنسان ذاتها، التي تكفل وتتفهم الحاجة إلى بعض الإجراءات الاستثنائية المقيدة للحريات، في ظروف الأزمات المهددة للحياة.
في المقلب الآخر، ثمة من تتحكم في عقولهم نظرية المؤامرة، ويذهبون إلى اعتبار فيروس «كورونا» مجرد وسيلة جديدة من وسائل الصراع على السلطة والثروة بين الدول الكبرى، وقودها صحة الناس وحيواتهم وحقوقهم، وغرضها تعزيز الهيمنة الاقتصادية وإعادة تقاسم الحصص والمغانم، ويخلصون إلى نتيجة تقول بضرورة مقاومة مختلف التدابير التعسفية المتخذة وتعرية غاياتها الأنانية وأهدافها الاستئثارية، في حين يندفع بعضهم نحو وجهة أخرى، ويرون أن كل ما جرى ويجري تحت عنوان فيروس «كورونا» هو لعبة تدار من قِبل ما يسمى «الحكومة العالمية الخفية» بغرض حيازة السلطة المطلقة للسيطرة على العالم، بما يخفف الأحمال على مصالحها وامتيازاتها، ويمكّنها من إعادة إنتاج مجتمعات جديدة خاضعة وخانعة، لا مكان فيها لحقوق الإنسان، ويشجعون تالياً، على رفض أي إجراء استثنائي تعلنه الأنظمة والحكومات بدعوى مواجهة جائحة «كورونا» حتى لو أدى ذلك إلى الأسوأ وإلى تفشي الفيروس وتهديد حياة الملايين من الناس، معتقدين بأن ذلك سوف يفضح ألاعيب «الحكومة العالمية الخفية» ويفشل مآربها، وينسحب ذلك على دعوتهم لرفض تلقي أي لقاح ضد هذا الفيروس، بصفته جرعة «مدروسة» تهدف لإخماد ملكة التفكير وخنق روح التغيير والتمرد لدى البشر.
بين هذا وذاك، ثمة من يتفهمون أن تفرض الحكومات حظراً محدوداً على حركة الأشخاص لضمان التباعد الاجتماعي، وعدم انتقال العدوى وتفشيها، بما يخفف من آثار المرض وتداعياته، ويتفهمون تالياً إغلاق الحدود والمعابر، وإيقاف حركة السفر، ومنع التجمعات والنشاطات بشكل مؤقت، لكنهم يخشون أن تفضي هذه الإجراءات مع الزمن إلى استباحة حرياتهم الشخصية وتسهيل امتهان كراماتهم، والأسوأ إلى تغييب حقوقهم الأخرى أو تسويغ تعليقها وتأجيلها تحت ذريعة حماية الصحة العامة؛ وإذ يستند أصحاب هذا الموقف إلى حزمة التحفظات التي أشهرتها غالبية المنظمات الأممية والوطنية المعنية بالدفاع عن حقوق الإنسان تجاه ما اتخذ من تدابير استثنائية وطارئة، فهم يشددون معها على ضرورة عدم المساس بالحقوق المطلقة للإنسان التي لا تخضع لقيود أو استثناءات مثل، الحق في الحياة والحماية من التعذيب والاعتقال التعسفي، وأيضاً على ضرورة أن تكون هذه التدابير مبنية على أدلة علمية معلنة وصريحة ومبرمجة زمنياً وخاضعة في كل وقت للمراجعة، وألا يتم تنفيذها بصورة تعسفية وعقابية، بل عبر إقناع الناس ونيل رضاهم واحترام مشاعرهم وخصوصياتهم وكراماتهم بما يشجعهم على المشاركة في إنجاح تلك التدابير وتخفيف المخاطر على صحتهم وصحة المجتمع عامة.
مما لا شك فيه أن جائحة «كورونا» قد منحت الأنظمة الحاكمة فرصة للتسلط والتعسف، لكن ثمة تفاوتاً وتبايناً في استغلال هذه الفرصة بين بلد وآخر تبعاً لطبيعة نظامه السياسي وأيضاً لمدى انتشار فيروس «كورونا»، ففي حين حرصت غالبية الحكومات الديمقراطية على الشفافية والوضوح وعلى تبيان أسباب ما تتخذه من إجراءات ومدى الحاجة الصحية إليها، ولجأت إلى التعاون والتفاعل مع مختلف مكونات المجتمع، معززة الثقة بهم وبدورهم التشاركي لتجاوز هذه المحنة، لم يكن لدى الأنظمة الديكتاتورية جديد تظهره أمام تاريخ يفيض بوجع الانتهاكات المستمرة لحقوق الإنسان.
فأنى لسلطة، كالسلطة السورية مثلاً، أن تقدم إيضاحات عما تتخذه من إجراءات استثنائية تطال حقوق الإنسان، وهي التي توغلت إلى آخر الشوط، في التدمير والقتل والاعتقال والتشريد، وخنقت البلاد، طيلة عقود بسطوة قانون الطوارئ والأحكام العرفية؟! وعيانياً، هل سأل المرء نفسه عن مدى اهتمام هذه السلطة بصحة البشر وهي التي أوصلت حياتهم وأمنهم إلى درك لا يطاق، وحرمتهم من أبسط حاجاتهم ومستلزمات عيشهم؟ فكيف الحال حين تسارع، وكعادتها تجاه أزماتها، إلى إنكار وجود فيروس «كورونا» من الأساس، وإلى حجب أي معلومة عن مدى انتشاره وعدد ضحاياه، وملاحقة من ينشرون معلومات عن الإصاشبات، واعتقالهم بتهم نشر الإشاعات والأخبار الكاذبة؟ أو حين يتباهى مسؤولوها بانتصارهم على هذا الفيروس، بعد اضطرارهم إلى الاعتراف بانتشاره، كما انتصروا على الإرهاب والمؤامرة الإمبريالية، كذا؟ ثم هل غريب عليها، وقد استثمرت جائحة «كورونا» لجباية العملة الصعبة عند بوابات الحدود، أن تستثمرها للتخلص من عشرات ألوف المعتقلين الذين تغص بهم السجون، ويعانون التعذيب وسوء التغذية والإهمال الصحي؟!
انتشر فيروس «كورونا» ولم يميز بين البشر على أساس القومية أو الدين أو العقيدة، لم يفرق بين امرأة ورجل، ولا بين غني وفقير، وكأنه، رغم ما سببه من ضرر وأذى، يريد أن يذكّر الجميع بقيم العدل والمساواة، وبضرورة احترام الإنسان وحقوقه من دون تمييز ككائن حي من لحم ودم وفكر، ولنقل كأنه يريد أن يعترض على تنامي نزعات الأنانية بين الشعوب وظواهر عدم اكتراثها بما يحل بغيرها من محن وكوارث، وربما كي ينبه سكان هذا الكوكب بوحدة المصير وبضرورة الانفتاح والتفاعل والتكاتف للانتصار معاً لحياة كريمة وآمنة.