د. عبد الله الردادي
يحمل الردادي شهادة الدكتوراه في الإدارة المالية من بريطانيا، كاتب أسبوعي في الصفحة الاقتصادية في صحيفة الشرق الأوسط منذ عام ٢٠١٧، عمل في القطاعين الحكومي والخاص، وحضر ضيفا في عدد من الندوات الثقافية والمقابلات التلفزيونية
TT

قمة الهموم المشتركة

قبل ما يزيد على العام بقليل، وفي قمة الدول السبع، اجتمع قادة الدول حينها ولكل منهم أجندته الخاصة، فترمب كان في خضم حربه الاقتصادية مع الصين، وجونسون في معمعة الخروج من الاتحاد الأوروبي، وفرنسا في صدام مع الولايات المتحدة بخصوص الضريبة الرقمية. وبدت هذه القمة بلا هموم مشتركة، فكل يغني على ليلاه وهمومه الخاصة. ولم تخرج القمة حينها برؤية واضحة تعبر عن رؤية لتغيير العالم، لا من الناحية الاجتماعية ولا الاقتصادية. ولكن العالم اليوم مختلف تماماً عنه حينها، فالهموم توحدت، والمشكلات أصبحت مشتركة، والحلول لا يمكن أن تأتي بها دولة واحدة. وكأن جائحة كورونا تمكنت من توحيد قوى العالم تحت مظلة واحدة، مظلة هي قمة مجموعة العشرين التي ترأسها المملكة العربية السعودية.
الزمن أعاد نفسه، فقبل 12 عاماً، اجتمع قادة العالم في واشنطن لمناقشة مستقبل العالم بعد الأزمة المالية التي عصفت بالعالم. وتحولت بعدها القمة إلى اجتماع للقادة، بدلاً من وزراء المالية، وتمكن العالم من توحيد جهوده للخروج بنفسه من أزمة اقتصادية أنهكته لسنوات كثيرة. هذا العالم توحد لعدة مرات قبل هذه الجائحة، وقبل الأزمة المالية. ولم يوحده إلا معرفة أن مصيره في خطر، إن لم يتكاتف، وهذا ما حدث بعد الحربين العالميتين، بتأسيس عصبة الأمم بعد الأولى، والأمم المتحدة بعد الثانية.
واليوم، يجتمع قادة هذه الدول بعد أزمة اختلفت عن سابقاتها، أزمة شلت أركان العالم، وأثرت على جميع سكانه، وتعدت الأثر الاقتصادي لتصل إلى التأثير الصحي والاجتماعي. كانت فكرة الخطر المشترك للعالم فكرة أقرب للخيال منها للواقع، ولذلك لم تأخذ كثير من الدول مشكلات كالاحتباس الحراري والتلوث الهوائي والمائي على محمل الجد، لعدم تقبلهم فكرة أن العالم قد يتعرض للخطر بأسره. ولكن هذه الأزمة أكدت أن العالم مصيره واحد، وأن ما يؤثر على دولة لوحدها قد يتعداها لدول وقارات. وأن التصرف الصحيح أو الخاطئ من دولة واحدة قد يمتد أثره لدول غيرها.
ولذلك فقد تميزت هذه القمة عن غيرها من القمم بأنها لا تختص بالدول العشرين فحسب، إنما هي قمة للعالم كله، وذلك من عدة نواحٍ؛ الأولى كانت بتبني المملكة العربية السعودية مبادرة لإطلاق منصة الاقتصاد الدائري الكربوني، تكون منصة للعمل التشاركي بين دول العالم من أجل حماية الكوكب من التغير المناخي، والحفاظ على البيئة من انبعاثات الكربون. والمصلحة في هذه المنصة ليست للدول العشرين فحسب، فكثير من هذه الدول منتجة للنفط المسبب للانبعاثات الكربونية. والهدف الأسمى هو الحفاظ على الكوكب، وذلك من خلال تطوير مصادر الطاقة النظيفة والمتجددة، وإيجاد الحلول ذات الجدوى الاقتصادية لهذه المعضلة. وقد أكد الملك سلمان أن المملكة لديها اهتمام وعدد من المبادرات لالتقاط الكربون، وتحويله إلى مواد خام بوجود خطط لشرك
والناحية الثانية هي المسارعة بمساعدة الدول الفقيرة والأكثر تضرراً من جائحة كورونا، وذلك من خلال الصناديق العالمية، كصندوق النقد الدولي وغيره، وحزم المساعدات السريعة لهذه الدول، وتعهد الدول الأعضاء بتمديد اتفاق تخفيف أعباء الديون على الدول الأشد فقراً.
أما الناحية الأخيرة، وهي الأهم، فتشمل مستقبل العالم خلال العام المقبل، وهو عام يتوقع فيه أن يتحصل العالم على لقاح فيروس «كورونا». وقد شدد الاجتماع على أهمية التوازن في حصول جميع الدول على اللقاح الذي يجب أن يدعم من الناحية المادية، وألا تحرم دولة من اللقاح لعدم قدرتها المالية عليه.
وها قد انتهت استضافة المملكة العربية السعودية لقمة الدول العشرين؛ استضافة استثنائية بكل المعاني، فهي استضافة افتراضية للمرة الأولى، وهي قمة ناقشت قضايا تمس السواد الأعظم من العالم، سواء كانوا من الدول العشرين أو من غيرها. قمة لم تلتفت إلى الماضي، بل حملت هم مستقبل الأجيال القادمة، وهموم الأجيال الناشئة والشباب والنساء، وناقشت الحفاظ على الكوكب، وأهمية التعليم حتى في أحلك الأزمات، والتعاون بين الدول الغنية والفقيرة، والحفاظ على الحقوق الإنسانية للدول الفقيرة.
وقد تمكنت المملكة بكل اقتدار، من خلال مجموعاتها الفرعية، من مناقشة هذه المشكلات على مدى الشهور الماضية، والتقدم بحلول كانت ثمار تلاقح الأفكار بين المفكرين حول العالم في مختلف التخصصات؛ أفكار حملتها عقول من أجناس وجنسيات متعددة، جمعتها مظلة واحدة، وهي قمة العشرين التي رأستها المملكة العربية السعودية.