الياس حرفوش
صحافي وكاتب سياسي لبناني، عمل مسؤولاً في القسم السياسي في مجلتي «الحوادث» و«المجلة»، وكان له مقال أسبوعي فيهما. كما عمل في صحيفة «الحياة» التي شارك في إدارة تحريرها، وكان كاتباً ومشرفاً على صفحات «الرأي» فيها. أجرى العديد من المقابلات مع شخصيات عربية ودولية، وشارك في حوارات ومقابلات تلفزيونية معلقاً على أحداث المنطقة.
TT

استقلال يبحث عن مستقلّين

قرار إلغاء الاحتفالات بعيد الاستقلال هذا العام هو من أفضل القرارات التي اتخذتها الدولة اللبنانية. جاء التذرع بوباء كورونا في الوقت المناسب، لأن هذا الاستقلال الذي يفترض أن ذكراه تحل بعد غد (الأحد) في 22 نوفمبر (تشرين الثاني)، لم يعد موجوداً إلا في كتب التاريخ، فيما يستجدي الزعماء اللبنانيون كل أنواع التدخل الأجنبي، إما لدعم مشروعاتهم السياسية أو لإنقاذهم من حال الانهيار التي وصلت إليها البلاد بفضل جهودهم.
منذ الاستقلال عن الانتداب الفرنسي عام 1943. كان لبنان بحاجة إلى رعاية. انتخاب رؤسائه كان يحتاج باستمرار إلى «كلمة سر» تأتي من عاصمة خارجية أو من تفاهم عواصم. ومع أن البلد صغير الحجم بمقاييس الدول، ولا يفترض أن يؤثر تبدل أحواله السياسية أو شخصيات قياداته على أي وضع خارجي، فإن عادة معظم زعمائه في التلهف إلى رعاية الخارج جعلته مقصداً لكل طالب تدخل.
كان يمكن أن يُقال في السنوات الأولى من الاستقلال إن هذا الطفل يحبو، ويحتاج إلى عناية، ولا يستطيع الراعي الفرنسي أن يتركه يلعب بأقدار الناس على هواه. ولكن هذا الطفل كبر الآن، وبلغ السابعة والسبعين من العمر، ومع ذلك لا تزال العادات كما كانت في زمن الطفولة.
تعالوا نتطلع مثلاً إلى أزمة تشكيل الحكومة العالقة اليوم في لبنان. جاء الطبيب الفرنسي وقدم وصفة مجانية لطريقة إنقاذ البلد من الانهيار المالي الذي يتخبط فيه. أعطاهم مهلة أسبوعين، وكتب لهم عدة الشغل التي على الحكومة العتيدة أن تنهمك في تنفيذها. كان همُّ الطبيب الفرنسي مصلحة الناس الذين رآهم على شاطئ مرفأ بيروت المدمر يطلبون إنقاذهم ممن يفترض أنهم رعاة أمورهم. لكن دموع هؤلاء الناس هي آخر ما يقلق المسؤولين في لبنان. دبت الصراعات على الكراسي والحقائب والحصص. كلٌّ يسعى لنهش ما يستطيع مما بقي من الجثة. فيما العالم الذي يتابع يشعر بالدهشة والهول أمام وقاحة زعماء من هذا النوع، رغم المصيبة الكبرى التي حلت بشعبهم.
من جملة الإصلاحات المطلوبة لمد يد المساعدة الدولية إلى لبنان أن يكف الزعماء والمسؤولون فيه عن سرقة أموال الدولة، أي أموال الناس، وأن يتوقفوا عن التعامل مع الخزينة العامة وكأنها خزينة أموالهم الخاصة. كان من بين المطالب الإصلاحية أن تجري عملية تدقيق لمعرفة مصير الأموال التي تبخرت من المصارف، والتي تشير تقديرات إلى أنها تزيد عن 100 مليار دولار. فيما تزيد خسائر مصرف لبنان عن 50 مليار دولار. وقع جدل قضائي وسياسي بين المصارف والجهات المطالبة بهذا التدقيق، بسبب زعم حماية «السرية المصرفية» للحسابات وتحويلات المودعين، مع أن مراقبة المالية العامة هي حق طبيعي للمواطنين ولا تخضع للسرية، لأن من حق الناس أن يعرفوا مصير أموالهم التي أودعوها بحسن نية في خزائن المصارف واستولت عليها الدولة. جدل لا يتوقع أن ينتهي إلى نتيجة إيجابية، لأن القائمين على عمليات النهب على مدى سنوات هم الذين يفترض أن يقروا التشريعات الخاصة التي تسمح بإجراء التدقيق. والنتيجة... لا تدقيق في المدى المنظور، ولا فرصة لتحصيل المودعين أموالهم المنهوبة.
لم يعد سلوك السياسيين في لبنان المتصل بالفساد سراً خافياً على أحد. عندما زار الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون بيروت، بعد كارثة المرفأ، كان على رأس الشروط التي وضعها لمساعدة الضحايا ألا تذهب الأموال إلى خزينة الدولة، وأن تدفع مباشرة للمتضررين، في إشارة بالغة الدلالة إلى انعدام الثقة بنظافة يد هؤلاء السياسيين.
ثم جاءت سلسلة العقوبات على عدد من الوزراء السابقين، التي فرضتها الحكومة الأميركية، بسبب اتهامات الفساد والتواطؤ مع «حزب الله» المصنف على لائحة المنظمات الإرهابية في الولايات المتحدة. وكان الوزير جبران باسيل، صهر رئيس الجمهورية، آخر من شملتهم العقوبات، وهناك إشارات إلى أنه لن يكون الأخير. وجاء كلام السفيرة الأميركية في بيروت دوروثي شيا واضحاً عندما قالت إن «باسيل يغطي على سلاح (حزب الله)، فيما الحزب يغطي على فساد باسيل».
التحقيقات الدولية في فساد السياسيين اللبنانيين والتقارير التي تملأ صحف العالم بالأسماء والأرقام، كان يفترض أن تدفع جهة ما في لبنان، قضائية أو سياسية، إلى المبادرة إلى فتح تحقيق في الأمر. فمن الطبيعي أن يكون تحقيق من هذا النوع هو مسؤولية الجهات اللبنانية قبل سواها. وقد تكون لدى الغير مصالحه وأهدافه من وراء تحقيقاته وعقوباته، لكن ثقافة الفساد في لبنان ليست سراً، فقد صار شائعاً أن أقصر السبل إلى الثروة السريعة هو تبوّء منصب حكومي يتيح لصاحبه ما أمكن من صفقات يجني من ورائها القصور واليخوت، في بلد تجاوزت نسبة فقرائه 50 في المائة.
وفي غياب المحاسبة الداخلية، على رغم التقارير الإعلامية اليومية على المحطات، أصبح المواطن اللبناني بحاجة إلى دولة أجنبية لتفتح الملفات، وتعاقب المسؤولين عن سوء إدارة شؤون البلاد ومد اليد إلى المال العام، والسكوت على سلاح غير شرعي يخرق حق الدولة في السيادة على أراضيها، مقابل توفير هذا الحزب الغطاء لزعامة هؤلاء على أحزابهم ومناطقهم.
والأكيد أن أي دولة تحترم نفسها لا تسمح أن تقوم دولة أخرى بفرض عقوبات على المسؤولين فيها، كما يحصل مع المجرمين، تحرمهم من السفر والتعامل مع المصارف وتفرض الرقابة الصارمة على تحويلاتهم البنكية.
إجراءات كهذه يفترض أن تقوم بها الدولة المعنية التي ينتمي هؤلاء المسؤولون الفاسدون إليها، لأن شعب هذه الدولة ومالها العام هم ضحايا السرقات والفساد. لكن هل يتوقع أحد أن يحصل أمر كهذا في لبنان؟ في لبنان، على العكس من ذلك، يشكو القادة «السياديون» من الإجراءات الأميركية، ويطالبون واشنطن بإثبات اتهاماتها، مع أن هذه الاتهامات تتكرر على ألسنة اللبنانيين كل يوم... ولا من يسمع.