حنا صالح
صحافي وكاتب لبناني. رئيس تحرير جريدة «النداء» اليومية (1975 - 1985). مؤسس ورئيس مجلس إدارة ومدير عام راديو «صوت الشعب» (1986 - 1994). مؤسس ورئيس مجلس إدارة ومدير عام تلفزيون «الجديد» (1990 - 1994). مؤسس ومدير عام «دلتا برودكشن» لخدمات الأخبار والإنتاج المرئي (2006 - 2017). كاتب في «الشرق الأوسط».
TT

أبعد من مجرد حكومة العهد الرابعة!

قاتمٌ هو المشهد الرسمي مع دخول العهد السنة الخامسة. لا احتفال بذكرى انتخاب رئيس الجمهورية في 31 أكتوبر (تشرين الأول)، ولم يتم بثُّ الوثائقيات التقليدية عن «الإنجازات»، ولا مؤشرات عن اعتزام إحياء الذكرى الـ77 للاستقلال في الثاني والعشرين من الجاري، كما لم يُقَمْ احتفال بعيد الجيش في الأول من أغسطس (آب) الماضي.
في المقابل اتسعت دائرة المطالبين برحيل رئيس الجمهورية مع كامل المنظومة السياسية المسؤولة من الألف إلى الياء عن خراب البلد، المتهمة بنهبه وإفقاره وترك أهله محاصرين بالموت إما جوعاً وإما بـ«كورونا». وترتفع أصوات أسر ضحايا جريمة الحرب ضد بيروت مطالبين القضاء، خصوصاً قاضي التحقيق العدلي الرئيس صوان، بتسطير مذكرة استدعاء لرئيس الجمهورية الذي أعلن على الملء أنه «كان يعلم» بمحتويات العنبر «رقم 12»، وأنه أحال المعطيات إلى مجلس الدفاع الأعلى الذي يرأسه، ويعلن مئات ألوف المتضررين ضحايا جريمة «4 آب»: لن ننسى ولن نسامح!
وسط هذه الظروف تمت زيارة الموفد الرئاسي الفرنسي باتريك دوريل، التي تخللتها لقاءات مع زعماء الأحزاب الطائفية الذين التقاهم الرئيس ماكرون في قصر الصنوبر وتعهدوا أمامه بتشكيل «حكومة مهمة» ثم انقلبوا لاحقاً على التعهد. ولم يكن أمراً صعباً ألا يلاحظ السفير دوريل أن النقاش تجاوز حكاية «حكومة مهمة»، وانحصر في البحث عن تركيبة تقليدية تُرضي أطراف المنظومة الطائفية، لأنه ما من جهة يمكن لها القبول بتسليم الدفة للقادرين على الإنقاذ، بدليل أن طروحات التوزير تكاد تنحصر بمن هم أكثر ولاء وتبعية ولو بصفة اختصاصيين، ما يعني تعذر إنجاز الإصلاحات الضرورية التي تضمنتها «المبادرة الفرنسية»، وهي حصيلة مكثفة لتعهدات قطعتها الحكومات اللبنانية أمام مؤتمرات دعم لبنان ولم ترَ النور!
لعل الأمر الطريف هو تحوُّل مهمة دوريل في جانب منها إلى محاولة وصل ما انقطع بين أركان المنظومة السياسية كمتابعة فرنسية لمهمة تعويمهم، على غرار الضغط لتأمين تواصل هاتفي شكلي بين الحريري وباسيل، الأمر الذي يوحي بأن فرنسا التي تتمسك بدور مميز في لبنان، ذهبت بعيداً في القبول بما يُطرح لجهة تأليف حكومة «تكنوسياسية» بمعزل عن الأثمان، وهي تدرك أنها لن تكون أكثر من نسخة عن حكومة حسان دياب رقم 2! وتظن باريس أن التوقيت مناسب لملء فراغ التشدد الأميركي والخليجي الذي رسم سقفاً لا يمكن النزول تحته، أي لا تعامل مع أي حكومة يشكّلها «حزب الله» أو يكون شريكاً فيها!
كل التنازلات الفرنسية لجهة القبول بحكومة محاصصة فاقعة، ووقوف الموفد الفرنسي على خاطر النائب محمد رعد وقد انتقل إلى الضاحية الجنوبية للاجتماع به، لم تسفر عن أي خرقٍ، لأن ما يمر به لبنان قد يكون أبعد من مجرد تأليف حكومة. الثابت هنا أن «حزب الله» الممسك بالقرار يواصل خطف الدولة ويضغط لإبقاء لبنان في ثلاجة الانتظار، لتمرير هذه الفترة، بانتظار ما سيحصل في الإقليم، وتحديداً ما ستكون عليه خطوات «الضغط الأقصى» التي تهدد بها واشنطن. في المقابل يعلن رئيس الجمهورية أن العقوبات الأميركية التي استهدفت باسيل عقّدت الأمور. الأمر الذي يعني إعادة نظر في معايير التأليف، أي مكافأة باسيل، وإلاّ لن تُبصر الحكومة النور ولو استمر الفراغ لعدة أشهر... بمعنى آخر، الجهات الممسكة بالقرار والقلقة من العقوبات، ليست بوارد القبول بأي حكومة لا تمنحها الحجم الذي رسمته لنفسها كضمانة لاستمرارية نفوذها!
هنا يجدر التوقف أمام الوضع الخاص الذي يمر به «العهد القوي». دخل الثلث الثالث من الولاية، لكنه في واقع الأمر شاخ مبكراً. بدأت معالم الانهيار بالظهور منذ عام 2018، والإشارات بدأت قبل ذلك ولم تُستدرك. وعادة كل العهود في لبنان تتأخر شيخوختها حتى الثلث الأخير من الولاية، إلاّ هذا العهد الذي انطلق بقوة التسوية – الصفقة عام 2016، فذهب إلى الاستئثار بالوزارات والإدارة، فتراجعت تحالفاته واقتصر مريدوه على حواضر البيت فتجاور التملق مع الانتهازية وانعدام الكفاءة، ما كان له أبعد الأثر في تسريع الانهيارات العامة، بعد غضّ النظر كلَّية عن تغول «حزب الله» على القرار والاقتصاد. وهكذا كان كلما اتسع التردي استسهل العهد رمي المسؤولية على الآخرين، والاستفاضة في انتقاد سياسات سابقة، وهي بالمناسبة مستمرة ولم تتغير بعد، وبدا أنه ضربٌ من المحال الهرب من المسؤولية عن اتخاذ قرارات سريعة وخطوات جريئة تفرمل الانهيار، وهذا لم يحصل. وضرب من المحال اعتماد لغة خشبية والاكتفاء بنبش الماضي بوهم القدرة على إخفاء ما يواجه المواطنين مع تحول نسبة كبيرة من الناس إلى متسولين!
كل ما يجري اليوم يحمل الإصرار على أن المطروح من كل الجهات يُفضي إلى بقاء البلد في قبضة المافيا المتحكمة، ولا يضيرهم أنه حتى تاريخه فقدت الليرة 80% من قيمتها، وهناك 55% من اللبنانيين تحت خط الفقر منهم 33% في عوز شديد، وفي لبنان نحو 500 ألف طفل يعانون للبقاء على قيد الحياة! هذا الإصرار ما كان ليكون لولا استناد القصر وفريقه على الدويلة، وفي المقابل استناد الحريري إلى «التحالف» مع الثنائي «حزب الله» و«حركة أمل» ما فرض تكليفه رئاسة الحكومة ضد إرادة رئيس الجمهورية. هنا بالضبط تكمن رؤية «القطبة المخفية» التي تؤخر تشكيل حكومة العهد الرابعة!
يعرف القصر أنه تجاوز نص «اتفاق مارمخايل» لجهة تغطية سلاح «حزب الله» لمقاومة إسرائيل(...)، وأيُّ «مقاومة» هي، وما الحاجة إليها؟ فوفّر له التغطية لاجتياح الحدود وانتهاك السيادة وقتال الشعب السوري والوصول إلى العراق، وأبعد منه... ومحاولة تحويل لبنان منصة عدوان ضد الدول العربية. ولأنه يدرك عدم قدرته على الخروج من هذا الاتفاق، رغم هزال التغطية التي ما زال يوفرها للدويلة، يعرف أن المنظومة السياسية التي يجمعها الاستخفاف بمصالح الناس وحقوقهم وحياتهم، وتعد «ثورة تشرين» طويت نهائياً، لن تتورع عن اختراع الأعذار للإقدام على التمديد لمجلس النواب الحالي المهيمَن عليه من «حزب الله» والسوابق شواهد، لكنه من شبه المستحيل تمديد الولاية الرئاسية. ما يعني أنه بعد 31 أكتوبر 2022 سيدخل لبنان مجدداً حقبة من الشغور الرئاسي، لصعوبة تمرير البديل، ومن وجهة كل الأطراف فإن الحكومة المتعذر تأليفها الآن، ستكون أكثر من حكومة نهاية العهد، بل فترة ما بعد نهايته التي قد تطول، ومعروف أن الشغور السابق استمر 30 شهراً، وكل فريق يسعى للاحتفاظ بالحصة الأكبر، وأولوية بعبدا زرع ملائكة باسيل في الحكومة العتيدة كضمانة لاستمرارية الدور، الأمر الذي يعرفه بقية الأطراف ويحاذرون القبول به!