أندرياس كلوث
خدمة «بلومبيرغ»
TT

أميركا وبولندا واتجاهات الاستقطاب

في عام 2015، العام السابق على تولي دونالد ترمب رئاسة الولايات المتحدة، وقع تحول مماثل في السلطة في منطقة أوروبا الشرقية، وإن كان على نطاق أصغر. وعلى غرار الولايات المتحدة بعد مرور فترة وجيزة من الزمن، انحرفت دولة بولندا الأوروبية الشرقية صوب تيار اليمين المتطرف ومزيداً صوب الشعبوية المناهضة للنخبوية والمرتكزة أسسها على سياسات المظالم والاستياء. ولكن، كيف يبدو واقع بولندا اليوم؟
صارت بولندا دولة منقسمة على نفسها بمزيد من الألم والمرارة. وظهرت لافتات ترفع شعار «إنها الحرب» ويحملها مئات الآلاف من المواطنين البولنديين - أغلبهم من النساء - الذين نزلوا إلى مختلف شوارع البلاد خلال الأيام الأخيرة. وإنهم يتظاهرون ضد المساعي الحثيثة التي تحاول أن تجعل من أكثر قوانين الإجهاض تشدداً في أوروبا أشد تحريماً وقسوة، مع حظر تام لإنهاء حالات الحمل حتى في الأوقات التي يكون الجنين فيها غير قابل للحياة. وقالت إحدى النساء البولنديات المتظاهرات: «أود لو أنني أستطيع إجهاض الحكومة نفسها».
تتسق هذه المشاعر الغاضبة بمنتهى الدقة مع قواعد اللعبة السياسية التي أرساها السياسي البولندي المخضرم ياروسلاف كاتشينسكي، الذي يمثل الواجهة البارزة للسياسات الشعبوية البولندية على اعتباره زعيماً لحزب القانون والعدالة الحاكم. وكان قد صرح قبل فترة وجيزة بأن النساء المتظاهرات في شوارع البلاد هن من أنصار النزعة الإقصائية والعدمية ويعقدن العزم على تدمير بولندا. كما وصف التلفاز الحكومي البولندي - الخاضع تماماً لسيطرة الحكومة - تلك المظاهرات بأنها فاشية يسارية خبيثة. كما حث ياروسلاف كاتشينسكي الشعب البولندي «الذي يخشى الرب القدير على الدفاع عن الوطن، وعن الكنائس، والمقدسات ضد هجمات الدهماء، والغوغاء الذين يعيثون في الأرض فساداً». ولقد ظهر العديد من المتظاهرين وهم يرفعون لافتات تحمل رموزاً نازية واضحة ومعروفة.
وهكذا تبدو الأوضاع في مختلف شوارع بولندا في خريف عام 2020 الجاري. بيد أن الأمور لم تشهد هذا التدهور وإلى هذه الدرجة المريعة بين عشية وضحاها على الإطلاق. فلقد سقطت البلاد في هوة الاضطرابات العميقة - التي ربما تكون مألوفة للمواطنين الأميركيين المطلعين على مجريات الأمور - على نحو تدريجي على مدار السنوات الخمس الماضية.
ومن الناحية المادية ووفقاً للأسلوب المتبع، فإن ياروسلاف كاتشينسكي لا يشبه أياً من نجوم الإعلام الأميركيين البارزين على غرار دونالد ترمب. فإنه رجل ذو بنية جسدية خفيفة من النوع الذي يفضل الابتعاد على الأضواء الساطعة لوسائل الإعلام ويهتم بإدارة أمور الحكم والسياسة من خلف الكواليس. وكان في السابق يشغل منصب نائب رئيس وزراء البلاد في الآونة الأخيرة فقط، وذلك من أجل أن يتابع عن كثب الصراع الدائر على السلطة بين رئيس الوزراء ووزير العدل.
لكن ياروسلاف كاتشينسكي يشترك في كثير من السمات مع الرئيس الأميركي دونالد ترمب، لا سيما من ناحية الغرائز السياسية. فكلا الرجلين يستند إلى ويحكم من خلال قاعدته الانتخابية المؤيدة. وفي حالة كاتشينسكي تمثل تلك القاعدة الانتخابية المواطنين البولنديين الذين يسكنون المناطق الريفية، والمحافظين من معتنقي المذهب الكاثوليكي الذين ألمت بهم خيبة أمل كبيرة إزاء التطورات التي شهدتها بولندا منذ سقوط الشيوعية وحتى اليوم. وعلى غرار ترمب، فإن كاتشينسكي يتخذ موقفاً معارضاً تماماً ضد اللاجئين والمهاجرين الذين يراهم يشكلون تهديداً حقيقياً على أسلوب حياة الشعب البولندي الأصيل، وهو يعني بذلك القاعدة الموالية من أنصار حزبه الحاكم.
وفوق كل شيء، يفخر كاتشينسكي وحزبه الحاكم بإعلان الازدراء الواضح للنخب الليبرالية والعالمية. وخلال حملة الانتخابات الرئاسية في العام الجاري، اتخذ هذا الموقف صورة التشويه الممنهج ضد الأغيار والمتحولين من أنصار الآيديولوجيا المثلية المزعومة في البلاد. كما أعاد الحزب البولندي الحاكم صناعة الصور النمطية المبتذلة لمعاداة السامية في الماضي مع مغازلة صريحة لطروحات نظريات المؤامرة السمجة.
وعلى غرار دونالد ترمب أيضاً، عكف كاتشينسكي وأنصاره الموالون على انتهاك المحرمات الديمقراطية واحدة تلو الأخرى. غير أن تلك المجريات هي أسهل تنفيذاً في بولندا - التي تحولت إلى الحكم الديمقراطي اعتباراً من عام 1989 فقط، وصارت عضواً في الاتحاد الأوروبي منذ عام 2004 - عنها في الولايات المتحدة ذات التاريخ الطويل من الضوابط والتوازنات. ولقد قام حزب القانون والعدالة الحاكم، على وجه الخصوص، وعبر كثير من المراوغات والمناورات البالغة التعقيد، بالإجهاز تماماً على سيادة القانون في البلاد، وعلى استقلال القضاء وهيبة المحاكم على وجه التحديد.
ونتيجة لما تقدم، فتح الاتحاد الأوروبي تحقيقاً رسمياً فيما يتعلق بالانتهاكات البولندية للأسس الديمقراطية، غير أن ذلك لم يدفع كاتشينسكي إلا إلى مزيد من التحريض والانتهاك.
تعد الحكومة البولندية من أكبر المستفيدين من التمويلات الصادرة عن مقر الاتحاد الأوروبي في العاصمة البلجيكية بروكسل. ولكن، عوضاً عن ترمب الذي يروق له إلقاء اللائمة على منظمة الأمم المتحدة أو على منظمة الصحة العالمية أو على أي جهة دولية أخرى متعددة الأطراف، فإن حزب القانون والعدالة البولندي الحاكم يصف الاتحاد الأوروبي بأنه يشبه الإمبراطورية الأوروبية التي تتدخل في بناء الأمة بولندية الأصيلة.
أسفرت التداعيات العامة للنزعة الشعبوية البولندية السائدة عن جعل البلاد أكثر انعزالاً وإقصاء داخل الاتحاد الأوروبي. ويبدو أن الحكومة البولندية غير عاقدة العزم، أو هي غير عابئة بالأساس، في المساعدة على حل أي من المشكلات الرئيسية التي تواجه البلاد، من الهجرة إلى التغيرات المناخية وحتى مواجهة وباء (كورونا المستجد). وصارت حزمة المساعدات المالية الكبيرة لمكافحة الأوبئة لدى الاتحاد الأوروبي عالقة بين السماء والأرض بسبب بند يستهدف على وجه التحديد دولتي بولندا والمجر ويلزمهما ربط التمويلات بسيادة القانون في البلاد. وفي خضم ذلك، يواصل فيروس (كورونا المستجد) انتشاره المريع، الذي قد وصل إلى بولندا في أوقات متأخرة عن بقية البلدان الأوروبية الأخرى.
وتعد الخطوة الرامية إلى حظر الإجهاض على نطاق واسع - التي تحاول الحكومة البولندية جاهدة تأجيلها من الناحية التكتيكية المجردة - ترمي إلى محاولة صرف انتباه الشعب البولندي تماماً عن كل المشاكل والإخفاقات الحكومية الأخرى، مع حشد قاعدة التأييد الكاثوليكية المحافظة مرة أخرى في خوض حرب ثقافية مريرة هي أكبر مجالاً وأعمق تأثيراً. وهذا هو المغزى من النزعة الشعبوية بكل إيجاز.
غير أن محدوديات الحزب البولندي الحاكم صارت أكثر من واضحة. ففي استطلاع للرأي العام المحلي أجري في 31 أكتوبر (تشرين الأول) من العام الجاري، جاءت نسبة 30.9 في المائة من السكان مؤيدة لحزب القانون والعدالة الحاكم، فيما يعد أكبر تراجع للتأييد يشهده الحزب في تاريخه. ووفقاً لاستطلاع آخر، أكدت نسبة 70 في المائة من المواطنين تراجعها عن تأييد ياروسلاف كاتشينسكي وقالوا إنه حري به التنحي تماماً عن رئاسة الحزب.
وعليه، من السابق لأوانه تماماً القفز على النتائج والاستنتاج بأن النزعة الشعبوية في بولندا قد بلغت أوج ذروتها أو أنها سوف تتحرك على مسار الاستبداد السلطوي، كما الحال في المجر. بيد أن بولندا تقوم مقام ناقوس الخطر بالنسبة إلى الولايات المتحدة، في حالة الحاجة إلى مزيد من تلك التحذيرات المهمة؛ إذ أسفرت سياسات الاستياء الشعبوية الصريحة عن وصول البلاد إلى طريق مسدود. وبمجرد أن يشعر المواطنون بأن رفاقهم في الوطن قد أصبحوا أعداء لهم، وبمجرد أن يفرق ساسة البلاد بين جموع المواطنين على أسس تمييزية أو عنصرية، لن يكون بمقدور أحد على الإطلاق العمل على حل أي مشكلة من مشاكل الوطن على الإطلاق، فضلاً عن اندلاع كثير من المشكلات الجديدة تحت مظلة المعاناة البالغة التي يكابدها الوطن بأسره.
* بالاتفاق مع «بلومبرغ»