يوسف الديني
باحث سعودي ومستشار فكري. درس العلوم السياسية والإسلاميات التطبيقية، وعمل بالصحافة منذ عام 1999، وكاتب رأي في «الشرق الأوسط» منذ 2005، له كتب وبحوث ناقدة لجذور الإرهاب والتطرف والحركات والمنظمات الإرهابية في المنطقة. كتب عشرات الأبحاث المحكمة لمراكز بحثية دولية، ونشرت في كتب عن الإسلام السياسي والحاكمية والتطرف ومعضلة الإرهاب، وساهم بشكل فعال في العديد من المؤتمرات حول العالم.
TT

تصدعات ديمقراطية: رسائل الانتخابات الأميركية

تتكثف الشعوبية في العالم وفي نسختها التي تجلّت مع ثقة ترمب بالانتخابات بإحداثه فوارق ضخمة في الولاءات غير المعتادة للجمهوريين بين الأقليات في عبارة «أنا الشعب»، وهو عنوان أطروحة أخيرة صدرت في الدراسات السياسية الخاصة بالشعبوية وصعودها، وكيف حوّلت مسار الديمقراطية عن سياقها الاعتيادي المألوف باعتبارها نمطاً جديداً في الحكم التمثيلي يقوم ببناء علاقات متينة ومباشرة بين «الزعيم» الشعبوي وبقية الشعب من «الصالحين» من وجهة نظره، من دون وسطاء سواء من الإعلام أو الأحزاب أو حتى الحملات الانتخابية، إلا في الحدود الدنيا التي لا تمس تضخم نجومية الزعيم الشعبوي، وهو ما يمكن عبره فهم التصدّعات العميقة التي حدثت خلال سنوات حكم ترمب في المؤسسة والفكرة الديمقراطية، من التنافس بين الأحزاب على الفكرة والبرنامج والمخرجات، إلى شخصنة التنافس وتحويله إلى احتراب مكتسبات مرتبطة بالحضور الطاغي ذماً أو مدحاً للشخصية الشعبوية المركزية، وهو ما حدا بأحد المعلقين النابهين معلقاً في حواره مع مجلة سياسية مستقلة بأن الذين صوتوا ضد ترمب توحد هدفهم في إخراجه من المكتب البيضاوي، وليس بالضرورة أن يروا شخصاً ما بعينه فيه.
وهنا يمكن أن نفهم الاقتسام والاحتراب على النتائج بغض النظر عن الشأن القانوني الداخلي الذي لا يفيد كثيراً في تأمل ما حدث، فما حدث كان حدثاً تأسيسياً لنسخة هشّة ومتصدعة من الديمقراطية الأميركية استطاعت أن تتغلب على هشاشة الشعبوية المتغلغلة كتيار عالمي لا يخص الولايات المتحدة، رغم حصاد ترمب لأصوات غير مسبوقة، كما ظهر في أرقام فلوريدا، إلا أن ولادة كتلة انتخابية جديدة بريدية من الناخبين المكترثين بجائحة «كورونا» والخروج بنفس القدر من اكتراثهم بإخراج ترمب من البيت الأبيض.
الاستعارة من توني بلير كانت مفارقة ديمقراطية غير تقدمية، باعتبار فشلها قبل عشرين سنة منذ أن قام بإقرار التصويت عبر البريد، وسببت آنذاك في زمن لا «كورونا» فيه نتائج كارثية، وكانت بحسب خبراء الفلسفة الانتخابية سبباً في تلويث السياسة وثقافة الاقتراع، وبغض النظر عن قدرة ترمب المحدودة الآن في الظفر بأي من القضايا المرفوعة، إلا أن نقد التجربة البريدية التي تشبه إلى حد كبير خدمات الطعام والترفيه والنقل عن بعد crowd services في استقطابها لشريحة محددة غير مكترثة كثيراً بالوقوف طويلاً لاختيار رئيسها، لكنها منجذبة جداً للخطاب الإعلامي الرقمي ومخرجاته في تحويل الكتل السياسية إلى جماهير مدرجات رياضية غير معقلنة في خياراتها، وهو ما يفسر أيضاً حظوة الجمهوريين في هذه الانتخابات كحصص تشريعية على حساب ظهور الشخصيات الجدلية في الحزب الديمقراطي مع بايدن لأسباب تحشيدية، لكن عقلنتها وتقليم أظافرها اليسارية سيشكل تحدياً كبيراً لفريقه القادم، وهو ربما يكون قادراً على هذا الدور البراغماتي بحكم تاريخه السياسي وثقافته.
انتخابات حقبة ما بعد «كورونا» حملت الكثير من الدروس الكبيرة لفكرة الدولة والسياسة والإعلام الموجّه، فرغم مواقف ترمب الحادّة من الإعلام ومصداقيته وهجومه الدرامي المسرحي ضده، فإن ذلك لا يعني براءته، فالأصوات النقدية العاقلة اليوم تتزايد حول لعبة النخبة في إدارة المحتوى السياسي والتسويق له بما لا يعكس حجم التأثير على الشارع والعامة، بدا ذلك واضحاً على مستوى حجم التغطية أو التعامل مع الادعاءات القانونية لترمب، أو اختيار الضيوف والمعلقين، وصولاً إلى حجب التغريدات والحملات المكارثية على الأصوات الداعمة لسياساته لا شخصه، وصولاً إلى وصفه بـ«الخاسر الذي لا يملك روحاً رياضية» رغم حالة الذهول والصدمة والتردد في قبول شرعية ولايته عام 2016، وهو ما ألقى درس المحتوى السياسي الذي خسره الشعبويون وترمب، وعدم الاعتماد على الكاريزما أو الحضور الشخصي، وإغفال بناء منظومات إعلامية أو مساءلة المنظومات المسيّسة والمتحالفة مع النخب المنحازة لليسار المسيطر على صناعة الإعلام المضاد والبديل، إضافة إلى درس مهم للاستقرار ومفهوم الدولة مفاده أن الانقسامات وشخصنة التنافس السياسي يجب ألا يؤثر على مؤسسات الدولة وبنيتها وهيكليتها، أو يتم التأثير عليها من قبل الإعلام وانحيازاته، ومن هنا كان أداء الإعلام المحلي الخاص بالولايات مفارقاً على مستوى المنصات الكبرى قنواتٍ وصحفاً ومنصاتٍ التي انغمست في سباق مقارعة الشعبوية المشخّصة في ترمب، على حساب الصالح العام الأميركي، خصوصاً الطبقة العاملة والأقليات التي انحازت في أصواتها لخيارات عملية لا تتطابق مع لعبة السباق وشعاراتها، حتى وإن بدت إنسانية وأخلاقية من قبل الديمقراطيين، وهو ما يمكن توقعه على مستوى أبعد من الولايات المتحدة في تسويق سياساتها الخارجية بذات الشعارات المتصلة بحقوق الإنسان أو التعددية من دون الاكتراث بالسياقات التفصيلية والحرجة، على غرار ما اكتوت به المنطقة على مستوى الشعارات في العهد الأوبامي وسرديته عن الشرق الأوسط الجديد.
خبرة بايدن وبراغماتيته السياسية ربما ستجعل مقاربة تلك الأطروحات المعتمدة على الشعارات لا تعود بنفس وتيرتها، وستساهم قدرة الجمهوريين على استغلال سيطرتهم على مجلس الشيوخ وتحصينهم ضد أي تشريعات حادّة، من شأنها التأثير على الأسواق التي بدت مطمئنة في ارتفاعاتها، فالسوق عادة ما يكون المرآة الصادقة للسياسات المتوقعة، خصوصاً مع احتفاظ الجمهوريين بالسيطرة على المجالس التشريعية للولايات، خصوصاً في الولايات الكبيرة، من هنا كل الوعود «التقدمية» كما توصف من الصفقات الخضراء غير واردة بالحجم المتوقع من الجناح الديمقراطي المتحمّس لتغييرات كبرى.
الحقيقة الجديدة هي حالة الانقسام والتصدع بين الحزبين التي بلغت حدودها القصوى، وهو ما عبّر عنه خبراء الانتخابات باستبدال التصويت الأفقي بواسطة العمودي، في إشارة مقلقة على حالة الانقسام، لذلك مهمة بايدن الأولى إعادة جدولة التحديات الداخلية من جائحة «كورونا»، إلى مسألة التمييز العرقي واضطرابات ما بعد مرحلة جورج فلويد، وملف التأمين والأهم تجاهل دعوات الانتقام والقطيعة مع عهد ترمب، وشخصنة الحياة السياسة ومخرجاتها خلال أربع سنوات مضت.
الحضور الطاغي على مستوى الأصوات غير البريدية للجمهوريين ممثلين في ترمب درس مهم في التحوّل داخل الحزب التقليدي، حيث الاهتمام باقتصادات الأسر العاملة، والتخفيضات الضريبية، وحتى حملة 2020 التي وصفها فيليب جفري من «النيوزويك»... كانت انتخابات ترمب من دون ترمب لم تتحدث عن أي نقد ألفناه من الخطاب الشعبوي حول العولمة والتجارة الحرة والهجرة، وتم استبدالها بواسطة القانون والنظام وخلق الوظائف، بمعنى آخر كان التخلي عن تكريس القومية الشعبوية، ومحاولة الاستثمار في منجزاتها على الأرض أهم عوامل نجاحات الحزب الجمهوري، الذي ابتعد عن الشعبوية فخسر أيقونة تمثيلها!