عادة ما تعد السياسة الخارجية مسألة ثانوية الأهمية في الحملات الرئاسية، ولكن في 2020 لم يكن الأمر كذلك، فقد أدت النقاشات حول جائحة فيروس (كورونا المستجد)، ومستقبل المحكمة الأميركية العليا، والسلوك غير المسبوق للرئيس الأميركي دونالد ترمب، إلى خفض أهمية النقاش الموضوعي حول الدبلوماسية الأميركية لتصبح على الهامش السياسي للبلاد.
ومع ذلك، فإن هناك سبباً وجيهاً للبحث فيما تم بشكل خاطئ، وما تم بشكل صحيح، خلال السنوات الأربع الماضية؛ ففي حين أن سياسة ترمب الخارجية تميل بشكل أكبر للفشل وإيذاء الذات، فإن إدارته قد قامت في أماكن قليلة مهمة ببناء أساس لتحقيق تقدم استراتيجي، وربما يمكن لإدارة ترمب البناء على هذه المكاسب إذا حظي بفترة ولاية ثانية، لكن في حال فوز المرشح الديمقراطي جو بايدن، فإنه سيكون في وضع أفضل لاستغلال هذه المكاسب.
في 2017، تولى ترمب منصبه واعداً بتحطيم الوضع الراهن في السياسة الخارجية للولايات المتحدة حينها، وقد جادل هو ومستشاروه بأن أميركا قد أضاعت موقع الصدارة الذي احتلته منذ نهاية الحرب الباردة. وأعرب الرئيس عن رفضه للتحالفات والاتفاقيات التجارية والأركان الأخرى لاستراتيجية واشنطن العالمية التي كانت قائمة منذ الحرب العالمية الثانية.
وبالفعل، أوفى ترمب بوعده بتغيير النظام القديم الموروث. ولكن للأسف، فإن كثيراً من قراراته الرئيسية، مثل المطالبة بإيجارات باهظة من الحلفاء ككوريا الجنوبية، والانسحاب من المؤسسات الدولية - أو ببساطة إعاقتها - مثل منظمة الصحة العالمية ومنظمة التجارة العالمية، بدلاً من التنافس على النفوذ داخلها، والاهتمام بالديكتاتوريين على حساب التضامن مع الأصدقاء الديمقراطيين، وتوسيع كل الصدوع تقريباً الموجودة داخل التحالفات التي عادة ما كانت تقودها أميركا، ترقى لتكون بمثابة مصائب استراتيجية لقوة عظمى باتت تواجه تهديدات متزايدة من القوى الكبرى.
والآن، تتساءل البلدان حول العالم عما إذا كان لا يزال من الممكن الوثوق بالولايات المتحدة لاستخدام قوتها الهائلة بطرق مسؤولة أم لا.
لكن في الوقت نفسه، تركت الإدارة الأميركية الحالية إرثاً أكثر ملاءمة في كثير من المجالات الرئيسية الأخرى، ويتعلق الإرث الأكثر أهمية بالصين. فحتى وقت قريب، كان ترمب منشغلاً للغاية ببكين، وباختلال التوازن التجاري بين البلدين. ومع ذلك، فإن استعداده لتحويل السياق الخطابي والاستراتيجي للعلاقة من نموذج المشاركة إلى نموذج المنافسة قد أوجد مساحة لأصحاب المشاريع السياسية المتشددة في الحكومة الأميركية.
ولكن لا يعد التحول في السياسة المتعلقة بالصين مكتملاً، فليس هناك ما يحل محل اتفاقية الشراكة التجارية عبر المحيط الهادئ التي تخلى عنها ترمب في 2017. وغالباً ما كان الرئيس يغيب عن الجهود المبذولة لتركيز الاهتمام العالمي على سجل الصين المروع في مجال حقوق الإنسان، كما لا تزال العلاقات مع دول في جنوب شرقي آسيا، التي تعد التحالفات الجيوسياسية معها مائعة والنفوذ الصيني منتشراً فيها بشكل متزايد، ضعيفة للغاية.
ومع ذلك، فإن الإدارة تستحق الثناء لإحياء ما يسمى الحوار الأمني الرباعي (وهي شراكة بين أستراليا والهند واليابان والولايات المتحدة تم وضعها في 2007، ثم تم حلها في 2008)، وجعله نواة لاستجابة متعددة الأطراف لسلوك الصين العنيد في المحيطين الهندي والهادئ.
وتضغط وزارة الدفاع الأميركية (البنتاغون) كذلك بشكل تدريجي، ولكنه جاد، لإعادة توجيه الجيش الأميركي للتعامل مع متطلبات المنافسة والصراع المحتمل مع بكين.
وفي حال لم تؤدِ التعريفات التجارية الواسعة النطاق التي فرضها ترمب لتغيير سلوك الصين بشكل ملموس، أو لم تحسن الميزانية العمومية لأميركا، فإنها ستؤدي لبدء النقاش الذي طال انتظاره حول الوضع الذي يكون فيه الاعتماد الاقتصادي المتبادل مع أحد المنافسين مرغوباً فيه، وكون اختلاف الديمقراطيين والجمهوريين الآن هو في الغالب حول التفاصيل، وليس حول مبدأ المنافسة مع بكين، لهو دليل على مدى تغيير إدارة ترمب للنقاش الخاص بالصين.
ويعد المجال الثاني للتحركات البنّاءة من قبل الإدارة الحالية هو الفضاء السيبراني، فقد ساعدت إدارة ترمب سياسة الولايات المتحدة على اللحاق بمتطلبات العالم الذي بات أكثر تنافسية.
وفي أثناء فترة رئاسة (الرئيس الأميركي السابق) باراك أوباما، كان الموقف الإلكتروني للولايات المتحدة يتميز بالتركيز على استخدام معايير ضبط النفس في هذا المجال الناشئ من المنافسة، وذلك مع وجود بعض الاستثناءات المهمة للغاية، وقد كانت المشكلة المتعلقة بهذه المعايير هي أنها كانت مشتركة في الغالب مع الديمقراطيات الصديقة، ولكن ليس مع الأنظمة الاستبدادية المعادية.
وقد استخدمت روسيا والصين، إلى جانب كوريا الشمالية وإيران، الفضاء الإلكتروني ميداناً للقرصنة والتجسس والتدخلات السياسية. ومنذ 2017، تحولت القيادة الإلكترونية الأميركية إلى استراتيجية أكثر تشدداً، تتميز بـ«المشاركة المستمرة» و«الدفاع الأمامي»، والدخول إلى شبكات المنافسين، واستخدام الإجراءات التخريبية، أو على الأقل التهديد بالقيام بذلك، وذلك لإبقائهم في حالة اختلال في التوازن.
وربما لم يكن هذا التحول سيحدث لو لم يكن قد تم انتخاب ترمب في 2016، أو في حال لم يكن الرئيس قد ساعد على حدوث هذا التحول، من خلال الاستمرار في التقليل من خطر التدخل الروسي في السياسة الأميركية. ولكن في مجال يبدو أن المهاجم لديه الأفضلية فيه، فإن الولايات المتحدة باتت الآن تستخدم قدرات هجومية لإنشاء دفاع أقوى.
أما الإرث الثالث فهو نهج الإدارة الخارجي والداخلي لتحقيق السلام في الشرق الأوسط، وهو ما أدى إلى خفض مستوى التفاوض بين الإسرائيليين والفلسطينيين لصالح التوسط في تحقيق التقارب بين إسرائيل ودول عربية، مثل البحرين والإمارات العربية المتحدة ومؤخراً السودان.
ولكن هذه الفكرة ليست حكراً بالكامل على إدارة ترمب، وذلك لأن إدارة أوباما ووزيرة خارجيته هيلاري كلينتون قد حاولت تحقيق شيء مشابه.
وقد نتج تحقيق هذا التقدم عن العداء العربي - الإسرائيلي المشترك لإيران، وعما فعلته واشنطن حيال هذا الأمر، ولكن ليس من الواضح ما إذا كان هذا النهج سيؤدي في النهاية إلى تغيير حسابات القادة الفلسطينيين بطريقة مثمرة، وذلك من خلال إقناعهم بأن الصفقة الأفضل التي صمدوا من أجلها لن تتحقق، أو بطريقة مدمرة من خلال تحفيز العودة إلى العنف على نطاق واسع.
لكن خطوة ترمب هذه تعكس الاعتراف بأن آفاق حل الدولتين كانت كئيبة بالفعل. وعلاوة على ذلك، فإنها تؤدي لتشجيع التغيير الاستراتيجي الإيجابي في الشرق الأوسط الكبير، من خلال جلب التعاون بين إسرائيل وبعض خصومها السابقين إلى العلن.
ولكن هناك عدة محاذير بشأن كل هذه القضايا. فقد كان ترمب نفسه في بعض الأحيان عائقاً أمام تحقيق أقصى استفادة من هذه التحولات المطلوبة، والمفارقة هي أن إدارة بايدن قد تكون أكثر ملاءمة للاستفادة من هذه التحولات، وذلك من خلال إضافة ثقل تنفيذي لتبني استراتيجية إلكترونية أكثر عدوانية، أو من خلال وضع سياسة صينية لم تعد مثقلة بميل ترمب إلى تبني السياسات العشوائية غير الأخلاقية الأحادية الجانب.
وفي الواقع، فإن هناك بالفعل توافقاً معيناً بين المرشح الديمقراطي وأعضاء مجلس الشيوخ الجمهوريين الرئيسيين بشأن عناصر استراتيجية صينية أكثر شمولية، ووجود استراتيجية من شأنها أن تعطي الأولوية لوحدة الديمقراطيات في العالم، وتصاعد استجابة متعددة الأطراف للتحدي التكنولوجي الصيني.
وعادة ما يواجه الرؤساء الجدد إغراءات للتخلي عن أبرز مبادرات أسلافهم. وفي حال فاز بايدن في الانتخابات المقبلة، فإنه سيكون هناك كثير من السياسات التي يجب التخلص منها، والأضرار الدبلوماسية التي يجب إصلاحها. ومع ذلك، فإنه نظراً لأن بايدن ربما يرغب في الظهور بصورة الرئيس المختلف، ولأن أميركا ستجني مكاسب دبلوماسية بمجرد تجاوز حقبة ترمب، فإنه قد يكون لديه مزيد من الحرية لتبني بعض الأفكار الجيدة للإدارة السابقة، مع الاستغناء عن الأمراض الرئاسية الخاصة بترمب.
- بالاتفاق مع «بلومبرغ»