د. محمد النغيمش
كاتب كويتي
TT

الأنفاق واستباق الأزمات

كان في مقدور رئيس الوزراء البريطاني تشرشل أن يسير تحت الأرض لنحو 6 كيلومترات من مقر عمله إلى شارع «بيثنل غرين» حيث المخرج السري بجزيرة تفصل شارعين. ولو حاول أحدنا النزول من هذا القبو فسيمتد به إلى باطن الأرض؛ حيث الغرف الحربية للحكومة البريطانية إبان الحرب العالمية. ليس هذا من وحي الخيال، فالإنجليز قد أذهلوا العالم «بفكرهم الاستباقي» لإدارة الأزمات وربما قبل وقوعها.
فما ينبهر به السائح في عاصمة الضباب من تداخل مسارات مترو الأنفاق العجيبة وتناغم حركتها ليس سوى رأس الجبل الجليدي، لما أنشأه القادة الإنجليز من شبكة معقدة لحماية بلادهم ومعداتهم وأجهزة اتصالاتهم والأهم قادتهم وسائر كبار العاملين في الحكومة.
ومن أبرز ما تم الكشف عنه نفق «بوستماستر جنرال» السري الواقع أسفل مقر للحكومة في «57 وايت هول». وقد بني لاحقاً إبان حقبة الحرب الباردة لحماية أجهزة الدولة من القنابل الذرية. وقد استخدم تشرشل أيضاً تلك الأنفاق ولديه غرفة خاصة فيها سريره ومكتبه وقد زينت جدرانها خريطة العالم.
والعجيب فيما فعله الإنجليز أنهم ربطوا كل أجهزة الدولة، ووزاراتها ومرافقها الحساسة بشبكة أنفاق سرية يتنقل فيها أبرز القياديين لإدارة مجريات الأحداث فوق الأرض. إذ قدر وجود ما يناهز مليوناً ونصف مليون كيلومتر من المنشآت ومياه وصرف وغاز وكهرباء في عمل مذهل لم يتعرف العامة بعد على تفاصيله، بحسب تقرير لـ«بي بي سي».
ومما عرف مثلاً وجود غرفة اتصالات هاتفية تحت شارع هاي هولبورن (يوجد فيه المبنى السابق لصحيفة «الشرق الأوسط») يمكنها الصمود في وجه قنبلة ذرية بسبب وجودها في عمق 60 متراً تحت محطة تشانسري لين لمترو الأنفاق. وقد وسعت الغرفة «المخبأ» لتسع محطة استقبال أول خط هاتفي عابر للأطلسي، وتضم أيضاً مقهى، ومطعماً، وصالة ألعاب، وحانة للعاملين قيل إنها أعمق حانة في المملكة المتحدة على عمق 60 متراً.
ما فعله الإنجليز كان ضمن خطواتهم التاريخية في التعامل مع الأخطار المحدقة والاستعداد لما هو أسوأ. فهم حذرون بطبيعتهم، لكنهم لا يلعنون الظلام، بل يشعلون شمعة لإيمانهم بأن ثمة نوراً في نهاية النفق. وهي كلها محاولات استباقية لإدارة الأزمات.