هالة محمد جابر الأنصاري
- الأمين العام للمجلس الأعلى للمرأة في البحرين
TT

في ذكراه الخامسة والعشرين... هل أثبت «إعلان بكين» جدواه؟

مما لا شك فيه أن منهاج عمل وإعلان بكين الصادر عن أحد أهم المؤتمرات التاريخية، بإجماع أممي ومنذ ربع قرن، هو بمثابة جدول أعمال عالمي يرسم للاعبين الفاعلين والمسؤولين عن تمكين المرأة خريطة طريق طويلة الأمد، هدفها المرجو «القضاء على جميع العوائق التي تحول دون مشاركة المرأة مشاركة كاملة في جميع مناحي الحياة».
ولن أخوض في تفاصيل الخلفية التاريخية التي مهدت لصدور هذا الإعلان، ولكن سأعرج بقليل من الإشارة إلى ظروف سنة ولادته (1995)، حينما شهد العالم في تلك الحقبة الزمنية تقلبات سياسية مفاجئة، وحروباً أهلية مدمرة، وعلاقات دولية مضطربة، وصحوة حقوقية منتظرة، وانطلقت في فترتها الاتفاقيات التجارية العالمية والعابرة للحدود والقارات واستنفار للحد من أسلحة الدمار الشامل والتمهيد لحرب جديدة ضد الإرهاب.
في ظل مثل هذه المتغيرات ولد إعلان بكين، الذي يبلغ من العمر 25 عاماً، واحتفل المجتمع الدولي مؤخراً بذكرى ميلاده وبنكهة «كورونية» تفتقر إلى المناقشات المعمقة في جدوى أو أثر هذا الإعلان المرجعي كما يجب أن يكون في مثل هذه المحطات المهمة. ومما لا شك فيه فإن المنهاج له سقفه المرتفع بتناوله لقضايا في غاية الأهمية في سبيل تمتع المرأة بحقوقها الإنسانية والمدنية، وارتقاء مساهماتها في بناء مجتمعاتها بعيداً عن مخاطر النزاعات المسلحة والاحتلال الأجنبي وتأثيرات المناخ والكوارث الطبيعية، وليكون للمرأة دور فاعل في وقت الحروب والاضطرابات وأن يُسمع صوتها على طاولة المفاوضات ومحادثات السلام وفي عمليات صنع القرار. وهو ما ساندته صيغة قرار مجلس الأمن رقم «1325» قبل 20 عاماً بشأن المرأة والسلام والأمن، والذي جاء بمعالجات وإرشادات لتفعيل دور المرأة في منع الصراعات وحلها لتحقيق الاستقرار والرخاء المنشودين لسلامة البشرية.
وبنظرة الطائر على أوضاع المرأة كإنسان، نجد أن هناك نجاحاً يحسب للمجتمع الدولي عند الحديث عن إعلان بكين الذي أقر بأن حقوق المرأة أصبحت جزءاً لا يتجزأ من منظومة حقوق الإنسان، وأبرز أهمية الدور المُلقى على عاتق الآليات الوطنية المختصة بتمكين المرأة، وأكد كذلك أهمية المسؤولية المشتركة والأدوار المتوقعة للأجهزة الحكومية والمنظمات المدنية والوكالات الأممية لتحقيق العدالة الاجتماعية والاقتصادية التي يجب أن تترجمها السياسات والتشريعات والبرامج والموارد، مع العمل المستمر على تنقيتها من شوائب التمييز واختلال ميزان تكافؤ الفرص بين الرجل والمرأة، ومن دون أن يغفل الإعلان أهمية الثقافات المجتمعية وقيمتها الداعمة لمبدأ وحق المرأة في العيش بكرامة «كمواطن كامل الأهلية» بما لها من حقوق.. وما عليها من واجبات.
وبحسب ما يؤكده عدد من التقارير الدولية، فإن بداية الألفية قد شهدت طفرة جديدة في مجال التعاطي مع مكوّن المرأة، وخصوصاً في مجتمعاتنا الخليجية التي حوّلت قضية تمكين المرأة إلى مسألة خاضعة للرقابة والمتابعة والتطوير المستمر، وأصبحت مؤشرات تقدمها تحاكي وتنافس مؤشرات التقارير الدولية لتخاطب العالم بلغته، وبضوابط تراعي الخصوصية الوطنية، وبما لا يحيد عن مشاركة المرأة في الشأن العام بصورة حقيقية وفعلية تبتعد عن المعالجات الشكلية لتحقيق أي مكاسب وقتية.
ولكن بالرغم مما نشهده في المنطقة من تقدم يتأسس على إرادة سياسة مستنيرة وقناعات شعبية مساندة لدور المرأة المتنامي، فإن العالم يشير في بعض دراساته إلى أن الفجوة بين الجنسين لن يتم غلقها إلا بعد 100 عام! وأن نسب مشاركة المرأة في مواقع صنع القرار أو في سوق العمل لا تتناسب مع أعدادها المتزايدة وخبراتها المتراكمة علمياً ومعرفياً ومهنياً. وتطالعنا تلك المراجع، في بعض الأحيان، على واقع سوداوي للمرأة، التي تعاني من ظلم سياسي أو اقتصادي أو اجتماعي أو ثقافي، وهو ما ينطبق على الرجل بطبيعة الحال بسبب بعض من تلك الظروف، ليفاجئ النظام العالمي مع أوائل هذا العام، وفي خضم هذه المراجعات والتراجعات، باقتحام شرس لجائحة «كورونا»، لتكون «الضغث» على ما يواجه من «إبالة» وابتلاءات، بتداعياتها وتعقيداتها وتأثيراتها المتشابكة، فيضطر العالم، مكرهاً لا بطل، بإعادة النظر في حساباته وقناعاته والتزاماته، وبتساؤلات واستفهامات ستأخذ وقتها لحين اتضاح هوية العالم الجديد، والذي نأمل في أن جل ما سيأخذه هو «الوقت» وليس المزيد من «الخسائر» بشرية كانت أم مادية.
ولعل من بين التساؤلات التي ستبقى تلوح في الأفق حول مستقبل تقدم المرأة، والعالم يمر في ذروة الأزمة الصحية متمسكاً بأمل الحصول على «إكسير عودة الحياة» في ظل تقلب بورصة التطعيمات، نزولاً وصعوداً، وباشتباك غريب لتلك البورصة مع مزاج المشهد السياسي العالمي؛
- هل سيكتفي المجتمع الدولي بالتأييد السياسي المعنوي و«تجديد العهود» تجاه اتفاقياته وإعلاناته ومعاهداته وقراراته، التي جاءت لمعالجة مشكلاتنا العالمية لحين لحظة «كوفيد 19» الفاصلة؟ أم ستتجه منظماته ووكالاته إلى تجديد معالجاتها بشكل يراعي فداحة الظرف الطارئ بما تنتج عنه من صور مستجدة للمعاناة الإنسانية، تتطلب توفير أشكال مختلفة من الخدمات والدعم الاجتماعي لمواجهة أسباب البطالة وصعوبات التعلم؟ إذ لم تعد الأمية تقاس كما اعتدنا، وسنتعامل مع فقر معرفي وتقني يعمّق من الفجوة بين المجتمعات، بشمالها وجنوبها، غنيها وفقيرها، قبل أن تعمقها بين نسائها ورجالها، وبين شبابها وشيوخها.
- هل سنواصل من حيث انتهينا على صعيد سياساتنا وبرامجنا الوطنية التي أصبحت أكثر فاعلية وتركيزاً وأسرع تنفيذاً مما كانت عليه قبل الجائحة؟
- وهل ستعلمنا الجائحة أفراداً بأن العالم الجديد قد لا يستوعبنا إذا لم ندرك ونفهم مغزى الأزمة الصحية، سواء على صعيد استهلاكنا وسلوكنا «المهلك» والمتمسك بترف العيش لا بجوهره، والذي يفتقد أحياناً لإرادة الإنتاج والبحث العلمي والتعلم المستمر واحترام وحماية حقوق الآخرين وسلامتهم؟
خلاصة القول، إن ما يلوح في أفق التنمية العالمية لن يكون سهلاً إبحارنا فيه، وسيكون من الفطنة أن نستعد بخطط التعافي من هذه اللحظة، باستبصار ما هو قادم، وباستثمار كل فرص هذه المحنة، بلياقة المحاربين وبمرونة السياسيين، لتفادي العودة لما كنا عليه، فليس من الحكمة (التي لا نريد أن نضل طريقها) أن تضيع بوصلة التقدم للأمام بالعودة للوراء... لنلدغ، من ذات الجحر، مرة ثانية!

- الأمين العام للمجلس الأعلى للمرأة - مملكة البحرين