فايز سارة
كاتب وسياسي سوري. مقيم في لندن. عمل في الصحافة منذ أواسط السبعينات، وشارك في تأسيس وإدارة عدد من المؤسسات الإعلامية، وكتب في كثير من الصحف والمجلات، ونشر دراسات ومؤلفات في موضوعات سورية وعربية. وساهم في تأسيس العديد من التجارب السياسية والمدنية.
TT

نظام الأسد يسعى لتجديد نفسه!

قريباً من نهاية السنة العاشرة لثورة السوريين، والتي ستحل منتصف مارس (آذار) 2021، يتجه نظام الأسد لاستكمال عملية تجديد نفسه، بإعلان أن العقد الماضي بما حمل من أحداث وتطورات، تم طيه، وأن النظام سيبدأ عهداً جديداً، يقارب بدايته الأولى، يوم وصل بشار الأسد إلى سدة الحكم في عام 2000 وريثاً لأبيه، في خطوة لم تشهدها الأنظمة الجمهورية من قبل.
تجديد النظام في سوريا، أمر تكرر مرات بعد وصول «البعث» إلى السلطة عام 1963، كانت الأولى في فبراير (شباط) من عام 1966؛ حيث انقلب يساريو «البعث» على يمينه، فجددوا أطروحاتهم السياسية والاقتصادية الاجتماعذية، وعلاقاتهم العربية والدولية، وأحدثوا تبدلات في مؤسسات النظام وأشخاصه، وسعوا إلى إقناع السوريين بأن تغييرات عميقة في طبيعة النظام وعلاقاته الداخلية- الخارجية حدثت، الأمر الذي يعطي قادة النظام الجديد فرصة لتجربة جديدة، يوحي النظام بأنها ستكون «الأفضل» و«الأحسن» مما سبقها.
واستفاد حافظ الأسد من تجديد النظام عام 1966، فأطلق عملية تجديد للنظام بعد استيلائه على السلطة في عام 1970، فأبعد وجوه النظام السابق سجناً وتهميشاً، وجلب وجوهاً جديدة، وخفف من شعارات التشدد السياسي متجهاً إلى براغماتية غير مسبوقة من جانب البعثيين. وكان الأهم في انعكاسات التجديد، حدوث انفتاح في سياسات السلطة وعلاقاتها الداخلية والخارجية. ففي الجانب الأول حدث انفتاح استعاد شكلاً مقيداً من النظام البرلماني بإنشاء «مجلس الشعب»، وأجرى تغييراً ممسوكاً في العلاقة مع جماعات المعارضة السياسية، بجلبها إلى ما سمَّاه «الجبهة الوطنية التقدمية»، ووعد السوريين بمسارات ومستقبلات مختلفة عما كان يعلنه النظام السابق. وفي الجانب الثاني، انفتح أكثر على الاتحاد السوفياتي بالتزامن مع انفتاح موازٍ على الغرب، لا سيما على الولايات المتحدة.
وللحق، فإن الأسد الأب بعد أن استقر قراره باعتماد ابنه بشار لخلافته، أخذ يقوم بخطوات تمهد لتجديد النظام، مما يساعد بشار فيما ينبغي أن يقوم به بعد وصوله إلى سدة السلطة، وأن يتم ذلك في أجواء عملية، تصير دروساً لبشار في عملية التجديد المقبلة، وفي هذا تندرج خطوات الأسد الأب في توكيل بشار متابعة ملفات سياسية وأمنية داخلية وخارجية مهمة، كان من بينها تكليفه مواجهة تمردات بعض الأشخاص في العائلة آل الأسد باللاذقية، وتسليمه ملف لبنان والوجود السوري فيه، وإدخاله في تجربة إقصاء كبار المسؤولين في النظام، والتي كان أبرزها إبعاد رئيس الوزراء السابق محمود الزعبي، والتي توجت كما قيل بانتحاره في مايو (أيار) 2000.
وللحقيقة، فإن فكرة تجديد النظام، وما تم تقديمه من دروس لبشار، صار في أدنى درجات اهتمام الأخير بعد توليه السلطة في يوليو (تموز) 2000، ويعود السبب في ذلك إلى ثلاثة عوامل: أولها عامل شخصي، بما هو معروف عنه من عدم اهتمام بما يطرحه أو يقترحه الآخرون، ما دام في قدرته فعل ذلك، وقد صار بإمكانه أن يفعل. والثاني عامل موضوعي، تمثل في الرعاية الدولية والإقليمية التي حظي بها صعوده إلى السلطة، يوم جاء قادة الدول للمشاركة في جنازة أبيه، واجتمع فاعلون رئيسيون منهم به، في يونيو (حزيران) 2000، الأمر الذي فسر بأنه دعم مفتوح له. والعامل الثالث جسَّده تحرك السوريين في نشاط ثقافي - سياسي- اجتماعي خلال ما سُمي «ربيع دمشق»، أكدوا فيه نزوعهم إلى تغيير وتبديل وتحديث الحياة السورية في جوانبها المختلفة، فكانوا من حيث لا يقصدون قوة تجديد «النظام»، والصوت الداعي إليه على الأقل، وساعدت العوامل في إعطاء الأسد الابن فرصة حكم البلاد لعشر سنوات، وسط تخبط سياسي واقتصادي واجتماعي، وضع سوريا والسوريين أمام انفجار شامل في وجه النظام.
وإذ أدى انفجار الحركة الشعبية في مارس (آذار) 2011 إلى قيام النظام بعمليات قمع دموي، أدت إلى تحول الاحتجاجات إلى ثورة شاملة، قابلها النظام بارتكاب كثير من الجرائم في العشر سنوات التالية، طالت أغلب السوريين؛ لا معارضيه والثائرين عليه فقط؛ بل الرماديين، وصولاً إلى أغلب أنصاره ومؤيديه؛ لأن تحويل هؤلاء إلى مجرمين وقتلة، هو جريمة بحد ذاته. وقد تعدت الجرائم فطالت دول الجوار التي أوقعتها جرائم الأسد في مشكلات زادت ما فيها؛ حيث وصلها ملايين السوريين نازحين ولاجئين إليها، وحمل المجتمع الدولي عبء تقديم الإغاثة والمساعدات الإنسانية لملايين السوريين داخل البلاد وخارجها.
وإضافة لما سبق من جرائم، فإنه لا يمكن إلا الوقوف عند ما عمله وسببه النظام من تنامي ظاهرة الإرهاب التي تشمل إرهاب الدولة، وقد عبرت عنه سياسات وأفعال نظام الأسد وإيران وروسيا في القتل والتدمير والتهجير، وإرهاب الجماعات المسلحة الذي كرسته بصورة عملية، وخصوصاً ميليشيات إيران في سوريا، ومنها «حزب الله» اللبناني، وفصائل من «الحشد الشعبي» العراقي، إضافة إلى الموازي السني من تلك الجماعات، وفيه «داعش»، و«جبهة النصرة»، وسلسلة طويلة من تنظيمات إرهابية متطرفة، تركزت جرائمها في سوريا؛ لكن بعضها ارتكب جرائم في بلدان أخرى، وثمة مخاوف في عديد من البلدان من امتداد أعمال تلك الجماعات إليها.
بعد الجرائم السابقة التي تمثل بعضاً مما ارتكبه النظام في السنوات الماضية، يسعى نظام الأسد، وبدعم من حلفائه الإيرانيين والروس وآخرين إلى إعادة تسويق النظام، ليقبل به العالم من جهة، ويجبر السوريين على قبوله من جهة أخرى، وسط تداول أطروحات ومبادرات دول في إعادة العلاقات الدبلوماسية مع النظام، ورفع العقوبات المفروضة عليه، والسعي إلى إعادة إعمار سوريا، والمطالبة بخروج القوات الأجنبية من الأراضي السورية، والتي تحصر الأمر في الأميركيين والأتراك، وكأن الروس والإيرانيين قوات تحت إمرة النظام أو تابعة له، وتجديد رئاسة الأسد لفترة قادمة، تتم وسط مسرحية معروفة التفاصيل في انتخابات تجري منتصف العام المقبل معروفة النتائج بشكل مسبق.
أما في مستوى التعامل مع السوريين، فالنظام مستمر في تشدده الأمني، يتابع إجراء تغييرات لتعزيز قوة نواته العائلية، وتركيزها بين بشار وأسماء، وتجديد الدائرة القريبة منهما، واستمرار السير على مبدأ استخدام القوة القصوى لاستعادة المناطق الخاضعة لسيطرة «المعارضة» في الشمال الغربي، وإجبار السوريين - بمن فيهم المؤيدون والرماديون - على القبول بالشروط الأمنية والاقتصادية والاجتماعية التي آلت إليها حياتهم، نتيجة سياساته في المناطق التي يسيطر عليها، وهو النموذج الذي سيتم تعميمه في بقية المناطق في حال تمدد سيطرة النظام إليها. وفوق ما سبق مستمر في رفض معالجة قضايا مصيرية، منها قضية المعتقلين وعودة المهجرين.
لا شك في أن فكرة تجديد النظام وتسويقه تبدو صعبة التصديق؛ بعد كل ما فعله النظام وحلفاؤه في السنوات الماضية من جرائم موثقة، كانت كفيلة بسقوط النظام، لولا أن الفاعلين في السياسة الدولية غضوا نظرهم عنها، وتجاوزوها لسبب أو لآخر، وهذا صعب أن يتكرر في ظل أن الوقائع معروفة.