رامي الريس
كاتب وصحافي وأستاذ جامعي من لبنان، وباحث ومترجم، يكتب في القضايا العربية والدولية، يحمل شهادة ماجستير في العلوم السياسية من الجامعة الأميركية في بيروت، وله مشاركات في العشرات من المؤتمرات وورش العمل في لبنان والخارج.
TT

موسم الهجرة من لبنان

لسنا في عام 1966 عندما أصدر الأديب السوداني الراحل الطيّب صالح روايته الشهيرة «موسم الهجرة إلى الشمال»، التي تُرجمت إلى عدد من اللغات، ونالت جوائز أدبيّة رفيعة. نحن في عام 2020 ونعيش موسماً غير مسبوق من الهجرة من لبنان.
صحيحٌ أن الاغتراب شكل على مدى العقود الماضية مدى واسعاً وطبيعياً للبنانيين الطامحين نحو النجاح والاستقرار، وبعضهم بنى إمبراطوريات مالية واقتصادية وحقق نجاحات باهرة، وصحيح أيضاً أن الاغتراب ساهم بدعم الاقتصاد اللبناني في كل الحقبات من خلال التحويلات الماليّة التي تتم بصورة منتظمة وبكميات وفيرة؛ ولكن الصحيح أيضاً أن ما يحصل الآن في لبنان من هجرة غير مسبوق بحجمه وأعداده.
لقد كان انفجار مرفأ بيروت في الرابع من أغسطس (آب) المنصرم «القشة التي قصمت ظهر البعير» كما يقول المثل الشائع. لم يعد في وسع اللبنانيين تحمّل الوضع الدراماتيكي: انسداد تام للأفق الاقتصادي، وتدهور سعر العملة الوطنيّة، والتضخم المتسارع، وارتفاع نسب الفقر والبطالة (ذكرت «الإسكوا» في أحد تقاريرها أن نسبة الفقراء تضاعفت في لبنان لتصل إلى 55 في المائة في عام 2020 بعد أن كانت 28 في المائة في عام 2019)، وجائحة «كورونا»، والإدارة السيئة في مواجهتها، ما جعل لبنان يقارب السيناريو الإسباني مع تقلص القدرة الاستيعابيّة للمستشفيات الحكوميّة والخاصة، وإلى ما هنالك من منزلقات تؤكد أن سلسلة الانهيارات المتتالية لن تتوقف في القريب العاجل، وأن بناء المستقبل للأجيال الجديدة في المدى المنظور مسألة دونها عقبات وتعقيدات.
لقد وصلت درجات اليأس عند اللبنانيين إلى مراحل متقدمة، ما دفع بعض فقراء مدينة طرابلس إلى بيع كل ما يملكون ليقفزوا مع أطفالهم في قوارب مطاطيّة لا تمتلك الحد الأدنى من مواصفات السلامة العامة وغير مؤهلة لعبور البحار والمحيطات والتنقل بين البلدان، وذلك فقط في سبيل الهروب من الواقع اللبناني المقفل على أي حلول أو انفراجات. بعضهم اضطر لرمي أطفاله في قعر البحر بعد وفاتهم لعدم تحملهم ظروف السفر الشاقة، وبعضهم وجدت جثثهم على الشاطئ اللبناني. لم يحدث هذا المشهد الدراماتيكي أي ردة فعل رسميّة لبنانيّة تُذكر. إنه استمرار لظاهرة التقهقر الأخلاقي التي يعاني منها لبنان منذ سنوات طويلة.
الأخطر في موسم الهجرة الجديد هو ما يصطلح على تسميته «هجرة الأدمغة»، أي عمليّاً تفريغ البلاد من كفاءاتها الأساسيّة في كل القطاعات التي كانت له ميزات تفاضليّة فيها: الطب مثلاً. لقد استطاع لبنان النهوض بعد الحرب واستعادة بعض أدواره التي فقدها خلال حقبة النزاعات الأهليّة المسلحة، ومن القطاعات التي تمكنت سريعاً من احتلال موقع متقدم في الخريطة الإقليميّة كان القطاع الطبي والاستشفائي الذي تميّز بكفاءاته العلميّة والأكاديميّة، في حين كانت دول أخرى تبني صروحاً استشفائية ضخمة وتستورد لها عمالة من بلدان أخرى.
رويداً رويداً، يهاجر الأطباء اللبنانيون إلى مختلف أصقاع الأرض، بحثاً عن فرص عمل أفضل واستقرار أسري واجتماعي لم يعد متوفراً في لبنان بسبب الظروف المتدهورة، وبسبب غياب الأفق السياسي لتوليد الحلول المنتظرة منذ زمن بعيد. لقد قال وزير الخارجيّة الفرنسي جان إيف لودريان: «لبنان يواجه خطر زوال الدولة... البلد على حافة الهاوية. نصف السكان يعيشون تحت خط الفقر. هناك شباب قلق وبطالة واسعة، كما أن التضخّم مروّع ومذهل».
لقد واجه لبنان منذ نشأته تحديات وجوديّة صعبة، وبقيت الانشقاقات السياسيّة تضعف هيكل الدولة المرتجاة التي لا تزال غير مكتملة العناصر بفعل استقواء بعض أطراف الداخل بالخارج، وبفعل غياب التوافق على الثوابت الوطنيّة التي لا تزال موضع نزاع مثل هوية البلاد، ودور لبنان في الصراعات الإقليميّة، وموقفه من سياسات المحاور ونزاعاتها المتبادلة، فضلاً عن غياب التفاهم على تحييد لبنان لتلافي تجدد الإشكالية المتمثلة بتأدية دور الساحة المستباحة لتبادل الرسائل للقوى الفاعلة والمؤثرة من وراء الحدود.
المفارقة الكبرى أن موسمي الهجرة الأوسع حصلا في عهد الرئيس ميشال عون. الأولى عندما كان رئيساً لحكومة عسكريّة مبتورة وُلدت في الدقائق الأخيرة من عهد الرئيس السابق أمين الجميّل، بعد فشل انتخاب رئيس جديد للجمهوريّة سنة 1988، والثانية في الحقبة الراهنة، أي في ولايته الرئاسية التي انطلقت سنة 2016، وشهد لبنان في خلالها ويلات لا مثيل لها سياسياً ودستورياً واقتصادياً واجتماعياً ومالياً وأمنياً. بالكاد تستطيع أن تسجل للعهد أي إنجاز، تبحث عن إنجازات فلا تجدها!
في التجربة الأولى، لم تعمر حكومة العماد عون أكثر من عامين، فأطلق حرباً في كل عام: الأولى سماها حرب التحرير وكانت ترمي لإخراج الجيش السوري من لبنان (بعدما تيقن بانعدام دعم دمشق له في انتخابات الرئاسة) وأطلقت في لحظة إقليمية غير مواتية على الإطلاق، وكانت آفاقها مسدودة بالكامل لولا استغلال صدام حسين للحرب ودعمه للعماد المتمرد وإقحامه في الصراع التاريخي بين البعثين السوري والعراقي، ورداً على وقوف الرئيس السوري حافظ الأسد إلى جانب طهران في حربها الطويلة والدموية ضد بغداد. أما الحرب العبثية الثانية، فسميت حرب الإلغاء التي استهدفت تطويع «القوات اللبنانية» واحتكار القرار السياسي في المنطقة الشرقية (أي المناطق المسيحية وفق التعابير التي كانت رائجة في تلك الحقبة).
كانت النتيجة انطلاق أوسع موسم هجرة في تاريخ لبنان (لا سيما من قبل المسيحيين وقد دمرت بيوتهم وممتلكاتهم بسبب الحرب بين الإخوة). غريب كيف تنجح الشعبوية في بعض الأحيان في تعمية الرأي العام عن حقائق ووقائع تاريخية واضحة لا لبس فيها، ومنها مثلاً تلك الشعارات الرنانة التي ارتكز عليها التيار الوطني الحر في كل أدبياته السياسية وفي طليعتها: استعادة حقوق المسيحيين!
أما التجربة الثانية، أي حقبة عهد عون الرئاسي، فالأحداث تتكلم عن نفسها، وعناوين الصحف كفيلة بتقديم أفضل توصيف!
إنه موسم الهجرة من لبنان!