د. ياسر عبد العزيز
TT

صورة الزعيم... ومآلاتها

على مدى الأسبوعين الفائتين، طلّت على المجال العام المصري صورتان إشكاليتان، إحداهما للزعيم الراحل جمال عبد الناصر، الذي أتم هذا العام خمسين سنة من الغياب، حيث شهد الاحتفاء بذكرى رحيله في 28 سبتمبر (أيلول) 1970 عودة صورته إلى البروز من جديد، ومعها كل هذا الجدل الذي صاحب حياته ولم ينسحب في غيابه.
ولم يكد يمر أسبوع على استعادة صورة ناصر ومعها الحروب الصغيرة على هامش الانقسام حولها، حتى طلت صورة خَلَفه الرئيس أنور السادات، الذي حلّت ذكرى لحظة الإشراق الأهم في مسيرته في 6 أكتوبر (تشرين الأول) 1973 قبل أيام، ومعها ذكرى غيابه حين تعرض للاغتيال خلال احتفاله بنصره العتيد بين جنوده في 1981.
في استعادة الصورتين لعبة يحبها المصريون ولا يملّون منها، وفي تفجر الجدل الذي يكرر عبارات محددة إزاءهما في أغلب الأحيان ممارسة لا ينضب الشغف بها، أما المؤسسة الرسمية فلا تتورط في أكثر من إتاحة المجال لتكريس عظمة القائدين، والإلحاح على مناقبهما، وتأكيد الارتباط بين أدائها وبين ما استقر في الوعي الجمعي بخصوص وطنية تجربتهما وإخلاصهما للقيم الحيوية التي لا تقبل الدحض بين أوساط الجمهور.
الصورة الذهنية للقادة صناعة... هذا أمر صحيح ولا يمكن إنكاره؛ هكذا علّمتنا التجارب وهكذا ظهر في أداء الأمم والمجموعات البشرية، إذ هي انطباعات تتولد في الأذهان إزاء شخصية القائد ومسيرته وأدائه، ولأن الانطباعات هي نتاج إفادات تتكرر بإلحاح، فإن دور الآلة الإعلامية والخطاب الرسمي في هذا الصدد يبرز ويتأكد.
لكنّ تلك الصورة الذهنية التي تحظى بالحماية الرسمية أو دعم المؤسسات أحياناً، كثيراً ما تخضع لسلطة الجمهور الذي ينافح عنها ويذود أو يصر على تلطيخها والإساءة إليها؛ فتصل الإفادات الخاصة بها إلى أذهان الجمهور بعدما تمر على عدد من «الفلاتر» التي تعمل كمرشحات للصورة، تضمن اتساق الانطباعات ضمن مسار ربما يغاير ما استهدفه المخططون.
سيعني هذا أن صورة زعيم كناصر أو السادات ليست محصلة إرادة المؤسسة الرسمية ووسائل الإعلام الرئيسية إزاءها وحدها، وسيمكننا أن نجد ما يدعم هذا الرأي بوضوح في صورة الزعيم التركي الراحل أتاتورك، التي تُرسخ وجودها في الشوارع والمكاتب الرسمية والبيوت وعلى العُملة الوطنية وفي الوعي الجمعي لقطاعات مؤثرة من الجمهور في مواجهة عداء المؤسسات. ستظهر أيضاً صورة ترمب التي تواجه حرباً شعواء من المؤسسات الرسمية والإعلام الجماهيري المؤثر والنافذ ووسائط التواصل الاجتماعي، لكنها تبقى عصية على الاندحار والهزيمة المعلنة.
الصورة الذهنية إذن ستستجيب لتأثير المؤسسة الرسمية ووسائل الإعلام النافذة، وستتأثر بذلك بوضوح، لكن عاملاً آخر لن يقل أهمية سيُبقي لها القدرة على مخالفة تلك الإرادة، وهو عامل يخص الناس وكيفية تقديرهم لصاحب الصورة.
عندما يتعلق الأمر بصورة قائد تاريخي مثل الإسكندر الأكبر أو حتى جنكيز خان؛ فإن التوافق التقليدي بين المؤسسات ووسائل الإعلام النافذة ومراكز التفكير والمعرفة الرئيسية على شكل تلك الصورة سيكون أمضى وأكبر قدرة على النفاذ، لكن بالنسبة إلى هؤلاء القادة الذين لا تزال مفاعيل قراراتهم وتأثيرات سياساتهم واضحة على حياة قطاعات من الجمهور، فإن قدرة صانعي الصورة ستتضاءل على الحسم.
يقول شاعر العامية الراحل أحمد فؤاد نجم في رثاء عبد الناصر:
«أبوه صعيدي وفهم قام طلعه ضابط
ضبط على قدنا وع المزاج ضابط
فاجومي من جنسنا ما لوش مرا عابت
فلاح قليل الحيا إذا الكلاب سابت
ولا يطاطيش للعدا مهما السهام صابت
عمل حاجات معجزة وحاجات كتير خابت
وإن كان جرح قلبنا كل الجراح طابت
ولا يطولوه العدا مهما الأمور جابت».
في أي تحليل رصين لتلك الأبيات لن نرى الجمال في جمال بقدر ما سنراه في عيني الشاعر، وهو هنا سيعبر عن ملايين من المصريين الذي ما زال بعضهم على قيد الحياة يتأثر ببعض قرارات ناصر أو سياساته؛ إذ نظر المصريون غالباً لناصر من زوايا استقامته الشخصية، وانحيازه للطبقات الأفقر، ومحاولاته الدائمة لمخاطبة مشاعر الفخر لديهم، وهم راحوا يغفرون الخطايا والزلل مهما كان عتياً، في مقابل نشوة تلك العوائد العزيزة والغائبة على مدى التاريخ.
صورة الزعيم هنا تتأثر بما يراه الجمهور ويحسه ويطلبه ويشعر بالحاجة الماسّة إليه، وهو أمر قد لا يُنصف قادة نبهاء وأكْفاء لم تَحلُ أفعالهم في أعين الناظرين.