هال براندز
كاتب من خدمة «بلومبيرغ»
TT

حرب القوقاز الصغيرة دروس كبيرة للعملاقين

تخبرنا الحروب الصغيرة بالكثير من الأشياء عن أكبر القضايا الجيوسياسية والعسكرية الموجودة في عالمنا اليوم، لننظر إلى الصراع الحالي بين أرمينيا وأذربيجان حول ناغورني قره باغ، فربما لم يسمع معظم الأميركيين عن تلك المنطقة المتنازع عليها في القوقاز، لكن القتال هناك يكشف عن خطوط الصدع الرئيسية في البيئة العالمية المضطربة بشكل متزايد اليوم، كما أنه يؤكد الاتجاهات المهمة في تطور الحرب الحديثة.
فمن بعض النواحي، لا يوجد شيء جديد حول ما يحدث في ناغورني قره باغ، وهي منطقة عرقية أرمنية داخل حدود أذربيجان، والصراع حول تلك المنطقة هو واحد من الكثير من «الصراعات المجمدة» التي خلفها تفكك الاتحاد السوفياتي، فبعد انهيار الاتحاد احتلت القوات الأرمينية ناغورني قره باغ في حرب وحشية انتهت في 1994، وتسبب هذا القتال في مقتل عشرات الآلاف من الأشخاص، وتضمن ذلك مذابح لغير المقاتلين وطرد أو هرب ربما لمئات الآلاف من الآذريين.
وليس من المستغرب أن عملية وقف إطلاق النار التي أنهت الحرب قد أثبتت هشاشتها على الدوام؛ ولذا فإن جولة القتال الحالية، التي بدأت في أواخر سبتمبر (أيلول) الماضي، عندما سعت القوات الأذربيجانية لاستعادة السيطرة على ناغورني قره باغ هي ببساطة أحدث حلقة في الصراع المستمر منذ فترة طويلة.
ومع ذلك، سيكون من الخطأ التقليل من أهمية هذا القتال لسببين، الأول هو الفوضى التي كشف عنها داخل النظام الدولي، ومن المنطقي أن ننظر إلى هذا الاشتباك على أنه حرب بالوكالة بين الولايات المتحدة وروسيا؛ وذلك بالنظر إلى أن تركيا، أحد حلفاء أميركا في حلف شمال الأطلسي (الناتو) تدعم أذربيجان، في حين أن الأرمن لديهم علاقات وثيقة مع موسكو (صحيح أن روسيا تتمتع أيضاً بعلاقات جيدة مع أذربيجان، لكنها أكثر ودية مع أرمينيا، وهي عضو في الاتحاد الاقتصادي الأوروآسيوي بقيادة الكرملين).
لكن الأهم من ذلك هو التوترات التي تسلط الضوء عليها هذه الحرب داخل العالم الغربي، فصحيح أن أذربيجان ليست مجرد دمية في يد تركيا، لكنها تتمتع بدعم صريح من أنقرة في هذا الصراع، وفي الواقع، يشير استئناف الأعمال العدائية ضد العدو القديم لتركيا إلى أن هذه الحرب هي جزء من تكتيك تركي أكبر للتأثير في جوارها الجيوسياسي، وهو الجهد الذي يشمل أيضاً تدخلات أنقرة في سوريا وليبيا في السنوات الأخيرة.
ومن المؤكد أن الرئيس التركي رجب طيب إردوغان لا يتصرف بناءً على طلب من واشنطن في هذا الأمر، فقد أعلنت حكومته أنها «مستعدة تماماً» لمساعدة أذربيجان على إعادة احتلال ناغورني قره باغ من أرمينيا، التي لديها شتات مؤثر في أميركا، كما ناشدت الولايات المتحدة للمساعدة في إنهاء القتال.
وبحسب ما ورد من تقارير، فقد استخدم إردوغان أيضاً طائرات «إف – 15» المقدمة من الولايات المتحدة، والمرتزقة السوريين، ضد أرمينيا، وذلك على الرغم من أن هذه المزاعم لا تزال غير مؤكدة، ومع ذلك، أثارت سياسة الرئيس التركي رد فعل صارماً من الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، الذي حذر من أن حكومته «لن تقبل» أي تصعيد للصراع بدعم من تركيا.
كما تدعم فرنسا وتركيا أطرافاً متعارضة في الحرب الأهلية الليبية؛ مما أدى إلى حادث في يونيو (حزيران) الماضي زُعم فيه أن سفينة بحرية تركية استهدفت سفينة فرنسية باستخدام رادار، وأصبح النزاع الفرنسي - التركي بمثابة انقسام حاد داخل منظمة حلف شمال الأطلسي، التي كانت تكافح بالفعل للحفاظ على تماسكها في ظل عدم وجود قيادة أميركية بنّاءة.
وإذا كان نزاع ناغورني قره باغ عبارة عن فوضى من المصالح المتضاربة والمكائد الجيوسياسية، فإن التحالف الذي حافظ على السلام في أوروبا لعقود من الزمان قد بات كذلك أيضاً، فصحيح أن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين قد يخسر الأزمة الحالية، إذا ألحقت أذربيجان هزيمة عسكرية بأرمينيا، لكنه لا يزال بإمكانه الانتصار إذا كان الإرث الأكبر هو إضعاف المجتمع الأطلسي المنقسم بالفعل.
والسبب الآخر لأخذ هذا الصراع على محمل الجد، هو أن الحروب الصغيرة كانت تاريخياً بمثابة تدريبات للحروب الأكبر؛ وذلك لأنها توفر ساحة اختبار للمفاهيم والقدرات الناشئة، فقد سمحت الحرب الأهلية الإسبانية للقوى الفاشية بتجربة قصف المدنيين، كما قدمت لألمانيا دروساً قيّمة حول الحرب المدرعة، وبالطريقة نفسها، فإن القتال في القوقاز اليوم هو واحد من سلسلة من الحروب الأخيرة التي قدمت أدلة حول شكل الصراع القادم بين القوى العظمى.
ويمكن القول إن التدخل الروسي في أوكرانيا في 2014 كان هو التحذير الأول، فقد أظهر هذا الصراع حينها كيف يعمل منافس أميركي صاعد على دمج الهجمات الإلكترونية مع الضربات الحركية، باستخدام قدرات الحرب الإلكترونية ذات المستوى العالي لاكتشاف قوات العدو وإرباكها، فضلاً عن استخدام هذا المنافس الطائرات من دون طيار، والمدفعية دقيقة التوجيه، وغيرها من قدرات الضرب المتقدمة لإحداث الخراب في الدفاعات الأوكرانية.
وبالمثل، كانت الحرب الأهلية السورية مهمة أيضاً، وذلك ليس بسبب الأعمال الوحشية البدائية التي استخدمها نظام الرئيس السوري بشار الأسد، لكن بسبب مدى فاعلية موسكو في استخدام قدراتها الدقيقة لاستهداف المعارضة السورية، واستخدام دفاعاتها الجوية المتقدمة للحد من قدرة الولايات المتحدة على التحرك، وقد استعرض كلا النزاعين ما قد تواجهه الولايات المتحدة في أي صراع قادم مع روسيا، فالقتال بينهما سيكون في ساحة معركة مميتة بشكل لا يصدق، حيث ستكافح فيها القدرات الأميركية المتقدمة نسبياً من أجل البقاء.
وصحيح أن كلاً من أرمينيا وأذربيجان لا تمتلكان جيشاً متطوراً، لكن الصراع بينهما يكشف عن الكثير، فالضربات الصاروخية على المناطق السكنية هي بمثابة تذكير بأنه قد بات يمكن لخصوم أميركا من القوى العظمى أن يستهدفوا المناطق الخلفية والعقد اللوجيستية (في أوروبا الوسطى على سبيل المثال) التي لطالما اعتبرتها واشنطن أماكن آمنة، وتُظهر اللقطات التي تم التقاطها للطائرات من دون طيار وهي تدمر الدبابات والمركبات المدرعة مدى ضعف القوات الآلية عندما يتم تحديدها بواسطة أجهزة استشعار متقدمة واستهدافها بالذخائر الدقيقة.
ولطالما كانت القوات المدرعة عرضة للهجوم الجوي، وجزء من سبب معاناة القوات الآلية في القتال الحالي هو استخدام التكتيكات السيئة والمعدات القديمة، وصحيح أن الدبابات لم تصبح شيئاً من الماضي بعد، ولكن ستحتاج القوات الأميركية إلى استخدام دروع ثقيلة للوقوف في وجه التوغل الروسي في دول البلطيق، ومع ذلك فإنه في ساحة المعارك الحديثة سيظل من الصعب الحفاظ على الأصول، مثل الدبابات في ظل غياب التفوق الجوي، الذي ربما لن تتمكن الولايات المتحدة من الحفاظ عليه في المراحل الأولى من الصراع مع روسيا، أو في مواجهة الهجمات المعقدة والدقيقة.
وهو ما يعزز الحاجة إلى ابتكار طرق جديدة لاستخدام القوة القتالية الأميركية من دون تجميع القوات في تشكيلات ضعيفة للغاية، فضلاً عن ترسيخه حقيقة أن خوض الولايات المتحدة حرباً ضد قوة عظمى سيكون أكثر فتكاً بكثير من أي شيء شهده الجيش الأميركي منذ حرب فيتنام.
وقد يبدو الصراع حول ناغورني قره باغ وكأنه من بقايا الماضي السوفياتي في جزء غير مألوف من العالم، ومع ذلك، فإن القتال الشرس الدائر هناك اليوم يمكن أن يكون في الواقع بمثابة تدريب للمستقبل.
- بالاتفاق مع «بلومبرغ»