ستيفن كارتر
TT

كيف يقضي فيروس {كورونا} على الأخلاق الحميدة؟

يبدو أن الأخلاق الحميدة قد صارت إحدى ضحايا جائحة فيروس كورونا المستجد الراهنة. ولم لا، وقد كانت الأخلاق الحميدة والسلوك المتحضر يشهدان تدهوراً إنسانياً وتراجعاً مجتمعياً عبر العقود الماضية؟ غير أنه من المؤكد أن فيروس كورونا المستجد سوف يجهز عليهما تماماً في بادرة بالغة السوء.
إننا ننظر إلى الأخلاق الحميدة والسلوك المتحضر على أنهما يمثلان كياناً واحداً بلا فارق بينهما، في أغلب الأحيان، غير أن الأخلاق الحميدة ليست سوى جزء من السلوك المتحضر، إذ إنه يمثل أشكال التضحيات كافة التي نتقدم بها من أجل العيش في مجتمع عملي فعال. ولا تعد الأخلاق الحميدة مهمة للسلوك المتحضر من زاوية أنها ذات قيمة في حد ذاتها (رغم أنها ربما تكون كذلك)، وإنما نظراً لأنها تشكل بصفة تقليدية ما وصفه المؤرخ الأميركي الراحل آرثر شيلزنغر الأب (كان معاصراً لأوائل القرن الماضي) بأنه «خطاب التعريف» إلى الغرباء.
وفي الوقت الذي كانت فيه المعلومات عن الأشخاص باهظة التكلفة نسبياً، رأي المؤرخ شيلزنغر الأخلاق الحميدة وسيلة من وسائل التعريف بأنواع وأنماط الشخصيات التي كانت تعيش في تلك الفترة.
ومن المرجح للأخلاق الحميدة أن تكون مختلفة في حقبة ما بعد زوال الجائحة الراهنة، نظراً لأن خطابات التعريف الذاتية لدينا سوف تعمل على نقل رسائل مغايرة تماماً. وما سوف نقوم بفعله إلى حد كبير، وهو يتوازى مع ما نقوم بفعله حالياً، سيدور حول الإشارة إلى أن أكثر ما يثير اهتمامنا هو المحافظة على سلامتنا الشخصية، وسلامة الأفراد المهمين لدينا.
ومن طبيعة العادات الاجتماعية اتسامها بالتماسك والبقاء، ولكنني أتوقع أن بعض التغييرات التي طرأت بسبب الوباء الراهن سوف تتمدد وتستمر.
فلسوف تتلاشى تدريجياً قيمة الاستحياء في المجتمع. فلن نوصف بعد اليوم بأننا غير ودودين، إن رفضنا إجراء المحادثات المعتادة مع الأشخاص الغرباء، سواء كانوا يرتدون الكمامات الواقية أو لا. ولسوف نكون أقل استعداداً لمنح النقود هبة للمحتاجين، ولسوف يزداد خوفنا وحذرنا من الحشود، وإن لم يكن بصفة كبيرة: سواء عن طريق اللقاح المضاد، أو المناعة الجماعية، أو استنزاف الفيروس. فمن المنتظر للمطاعم والمقاهي والحانات ودور السينما والمسرح أن ترجع لسابق عهدها من العمل الطبيعي. ولكن بصرف النظر تماماً عن الوجهات القريبة للغاية التي نختارها لأنفسنا، فإن تغيير مسارات حياتنا كي نتفادى التعامل مع الآخرين لن يُنظر إليه على أنه من أعمال الوقاحة بحال.
ومن شأن القاعدة الذهبية أن تتلاشى وتنهار. ولسوف تختفي من حياتنا عبارة «لا، من فضلك، بعدك بالتأكيد». ولن يكون هناك أحد يمسك الباب لأي شخص حتى يمر، نظراً لأنه لن يرغب أحد في لمس مقبض الباب لفترة طويلة من الزمن. وسوف يكون التنحي جانباً من أجل السماح لأحد الأشخاص بالمرور هو نفسه السماح لذلك الشخص بالاقتراب الوثيق أكثر من اللازم. ولن نتردد بعد اليوم في الضغط بأنفسنا على زر «إغلاق الباب» في المصعد في وجه أي راكب يصل متأخراً ويحاول اللحاق بالمصعد. كما لن نتردد أبداً في مطالبة مدير المطعم الذي نجلس فيه بإخراج الشخص الذي يصيبه السعال من المطعم على نحو عاجل.
ومع استمرار ذكريات نقص الإمدادات والموارد خلال فترة الوباء، سوف نتخلى فوراً عن ترك كثير مما هو جيد أو مفيد كي يستفيد منه الآخرون. ولسوف يزداد ميلنا واهتمامنا بالتخزين، حتى تتحول منازلنا إلى ما يشبه مستودعات المنتجات الورقية الصغيرة. ومن شأن منتجات التنظيف والتطهير أن تختفي من على أرفف المتاجر والمحلات بالسرعة نفسها التي تتراص بها هناك.
ونأتي الآن إلى القرار الصعب: وفاة المصافحات الشخصية تماماً، كما يقول الجميع ذلك الآن، حتى الدكتور فاوتشي نفسه. ولكن من وجهة نظر السلوك المتحضر، فإن ذلك من المتوقع أن يثير قدراً من المشكلات؛ تشير الأعراف إلى أن المصافحة اليدوية تنتفي بها نوايا العدوان، إذ إن راحة اليد المفتوحة لا تحمل السلاح. وفي أثناء التصافح مع شخص آخر، لا يمكنها سحب السلاح. غير أن قبضة اليد المغلقة أو المرفق المعقوف لا يمكن أن يحمل الإشارة السلمية نفسها. وربما لن نُقدم على أي اتصال جسدي أو مادي مع الغرباء بعد اليوم على الإطلاق، مع توقع الإيماء بمزيد من الابتسام أو الانحناء.
بيد أن نهاية المصافحات اليدوية قد تؤدي إلى فقدان المعلومات. عبر مجموعة منوعة من السياقات، فإن عملية المصافحة اليدوية في حد ذاتها تشكل فرقاً في تقييماتنا للأشخاص الغرباء. وبعض الثقافات غير الغربية تستعين بسلسلة معقدة من الضغوط اليدوية في أثناء فعل المصافحة بغية البعث بإشارات اجتماعية معينة مختلفة من خلال المصافحة.
ومع وضع الأعمال التجارية في الحسبان، يقول الباحثون إن «جودة» المصافحة اليدوية بين أفراد المقابلات الشخصية تؤثر بصورة كبيرة مهمة على توصيات التعيين في الوظائف المختلفة -لا سيما عندما يكون المتقدمون لشغل الوظائف من الذكور على أدنى تقدير. كما تعد المصافحات اليدوية ذات أهمية قصوى في مفاوضات الأعمال.
وكان المديرون التنفيذيون، خلال الأوبئة المرضية السابقة، يواصلون الترميز إلى إبرام الصفقات المهمة من خلال تشابك الأيدي، حتى إن كانت الأطراف المقابلة تُحجم مختارة عن الإتيان بمثل هذه الممارسة. وهذا لا يعني نقصاً في الفهم بأي حال من الأحوال، إذ كانت مقدرة التلامس اليدوي على نقل العدوى المرضية بين الأشخاص معروفة منذ قرن أو أكثر من الزمان.
ثم هناك الأوساط الدبلوماسية. نأخذ على سبيل المثال الصورة الشهيرة للزعيم الفلسطيني الراحل ياسر عرفات وهو يصافح رئيس الوزراء الإسرائيلي الراحل إسحاق رابين في البيت الأبيض عام 1993، في إشارة إلى الموافقة الرمزية على إبرام اتفاقات كامب ديفيد من العام نفسه. وفي أنحاء العالم كافة، ظهرت تلك الصورة الشهيرة دليلاً على أن المواجهات العنيفة في منطقة الشرق الأوسط سوف تبدأ في التغير أخيراً. وكانت المصافحة اليدوية مهمة على وجه التحديد لأنه كان من العسير للغاية تصديق التوصل لإبرام تلك الاتفاقات في المقام الأول. وعلى اعتبار المسافة الاجتماعية الفاصلة بين الزعيمين، تصبح تلك الصورة خارج نطاق الفهم والإدراك، ولا تبعث بإشارة معينة على وجه الخصوص (بيد أن فشل تلك الاتفاقات في خاتمة المطاف لا يغير البتة من أهمية الصورة في الأساس، إذ يبدو الصراع من أجل تحقيق السلام مثل الرؤية التي طرحها الفيلسوف الفرنسي ألبير كامو لشخصية سيزيف الأسطورية، من حيث إن الصراع صوب تسلق المرتفعات هو المهم في حد ذاته، حتى إن استمرت الصخرة في الانحدار نحو الأسفل في كل مرة).
ويرجع بنا كل ذلك إلى السلوك المتحضر مرة أخرى. فإذا كان السلوك المتحضر يعني التضحية المجتمعية، فما هي التضحيات المتبقية لدينا؟ ما لم تعد الأمور إلى طبيعتها الأولى في الزمن القريب، فإنني أعتقد أن التضحيات المتبقية بين أيدينا ليست كثيرة؛ بين عوام الناس على أدنى تقدير.
يمكننا أن نتصور مستقبلاً متشعباً، تواصل فيه الأخلاق والأعراف التقليدية مسارها صوب التلاشي خارج الاستخدام العام، ولكن مع انتظامها ضمن المجالات المتخصصة، مثل الأعمال التجارية والعلاقات الدولية. ومن شأن الحفاظ على المصافحات اليدوية، والجلوس بالتقارب، والإمساك بالباب في تلك المجالات العامة، أن يصبح كالاحتفاظ بالشكليات العرفية القديمة في التعاقدات، والاستعانة باللغة المنمقة الرصينة في المجريات الدبلوماسية.
ولا يعني ذلك بحال أننا لن نعمل على صياغة المعايير الجديدة للسلوكيات المجتمعية المتحضرة. على سبيل المثال، ينتظر متسوقو التجزئة في الآونة الراهنة بصبر واضح حتى يقوم غيرهم من المتسوقين بإخلاء الممرات محدودة المساحة أمامهم. غير أن العرف الذي تنطوي عليه هذه الممارسات يتعلق في نهاية الأمر بحماية الذات، كما هو الحال تماماً في ارتداء الكمامات الواقية في مختلف الأماكن.
ولهذا السبب، فإنني أتوقع رؤية فجوة معتبرة آخذة في الاتساع بين عالم أكثر فظاظة من التعاملات والتفاعلات اليومية، مع درجة من الرفق الواضح لدى أولئك الذين تستلزم أدوارهم المجتمعية القيام بذلك. وربما تعد هذه طريقة أخرى من القول إنه من الآن فصاعداً، سوف يقل كثيراً عدد الأشخاص من بيننا الذين يحملون خطابات التعريف. وربما يكون ذلك مفيداً بصورة من الصور لسلامتنا الجسدية، غير أنه ليس كذلك بالضرورة من زاوية السلوكيات المتحضرة في المجتمع.
- بالاتفاق مع «بلومبرغ»