لحسن حداد
كاتب مغربي وهو أستاذ جامعي في التدبير والتواصل والعلوم السياسية والجيواستراتيجيا وإدارة الأعمال. خبير دولي في التنمية والاقتصاد والدراسات الاستراتيجية والثقافية والاجتماعية. نائب رئيس «المنظمة الدولية للتنمية». وزير السياحة الأسبق في الحكومة المغربية. عضو في مجلس المستشارين المغربي (الغرفة الثانية في البرلمان). رئيس اللجنة المشتركة للبرلمانين الأوروبي والمغربي.
TT

الوهم المزدَوَج: تشريح «الحرب الشعبوية» على البرلمان في المغرب

لا يمر يوم في المغرب من دون أن ترى أو تقرأ أو تتلقى رسالة أو رسماً أو بياناً أو نكتة تحط من شأن البرلمانيين والبرلمان. أصبح ممثلو الأمة والمؤسسة التشريعية محط هجوم إعلامي كاسح، خصوصاً على مستوى مواقع التواصل الاجتماعي من طرف المُفترَض فيهم أنهم هم من صوتوا لهم ليمثلوهم في مراقبة الحكومة والتشريع لصالح الشعب. هذه المفارقة موجودة في دول عديدة ولكنها أصبحت في المغرب لازمة ثابتة، خصوصاً على مستوى الخطاب الشعبوي السائد لدى شرائح متعلمة ونصف متعلمة من الشعب. مثلُ هؤلاء كمن أرسل مبعوثاً وتنكّر له أو عيّن سفيراً ونسِي قرار التعيين... سواء صوتوا لصالح ممثليهم في البرلمان أم لم يصوتوا، فمن المفترض أن هؤلاء مسؤولون عن وجود ممثلي الأمة تحت قبة البرلمان؛ ولهم الحق في محاسبتهم وتغييرهم إن لم يقوموا بواجبهم الذي انتُدِبوا من أجله في يوم الاقتراع، ولكن يُفترض فيهم كذلك التفاعل معهم ودعمهم ونقدهم نقداً بناءً ليمثلوهم أحسن تمثيل.
من المفترض أيضا أن المسؤولية مسؤولية الشعب كاملة في وجود البرلمانيين في البرلمان، وفي وجود النظام السياسي والانتخابي الذي يجعل البعض يصل إلى البرلمان رغم فساده المحتمل أو تدني كفاءته أو غيابه المستمر عن الجلسات. صحيح أن هناك مواطنين كثيرين يقومون بدورهم في التصويت يوم الاقتراع والتفاعل مع البرلمانيين حول قضايا محلية ووطنية، ولكن الرأي العام خصوصاً على مستوى وسائل التواصل الاجتماعي تسوده نظرة قدْحية سلبية وعَدَمية حول البرلمان. ما السبب في ذلك؟
في هذا المقال أقترح نظرية «الوهم المُزدوَج» لشرح الأسباب السوسيولوجية والتاريخية والسياسية لهذه «الحرب الشعبوية» على البرلمان في المغرب. أولاً، أنعت هذا الموقف بـ«الشعبوي» لأنه ينم عن رفض عام للنخب مهما كان شكلها، ولأنه لا يرى جدوى من وجود البرلمان أصلاً، بل قد نجد من يقول: «لا شيء هناك إلا الملك والشعب ولا حاجة لا للحكومة ولا للبرلمان ولا المؤسسات الأخرى»، وهناك من يعتبره هدراً للمال والزمن، ويعتبر الاقتصاد في أجور البرلمانيين وتقاعداتهم كافياً لبناء مئات المدارس والمستشفيات، ويرى أنه مُكونٌ من أنصاف المتعلمين تنقصهم الكفاءة والجرأة للقيام بدورهم.
هذه مقولات شعبوية لأنها إما أنصاف حقائق وإما تصورات خاطئة للواقع. أولاً، لا وجود لأنظمة سياسية ناجعة من دون نخب، ولا وجود لديمقراطيات بدون هيئات تمثيلية وحتى في الأنظمة الاستبدادية يستعين الحكام بالنخب لتسيير شؤون البلاد. أما كفاءة البرلمانيين فتسود الرأي العام مغالطات كبيرة بشأنها. و270 من البرلمانيين في مجلس النواب يحملون الإجازة فما فوق ومن ضمنهم العديد من المهندسين والأطباء والصيادلة والموثقين والأطر العليا والخبراء والأساتذة الجامعيين ومديري شركات وحتى من لهم تكوين دون ذلك فهم مقاولون ناجحون لهم تجربة طويلة في ميدان التجارة والصناعة والفلاحة والطاقة وميادين أخرى.
عدم كفاءة البرلمانيين وَهْمٌ لا يمت للواقع بصلة؛ إنه إسقاط لا غير تساعد في تكريسه وجوب سرية اللجان، المكان المناسب لإظهار كفاءات البرلمانيين للرأي العام.
أكثر من خمسة وثمانين في المائة من البرلمانيين هم من طبقات متوسطة عادية، البعض منهم لهم دخل متوسط ووجودهم في البرلمان هو نوع من التسلق الاجتماعي الآني والمحدود في الزمن، سوف يندثر حال انقضاء مدة الانتداب. الصورة النمطية للبرلماني صاحب السيارة الفخمة والسيجار والحصانة والذي يقضي وقته منهمكاً في إبرام العقود ونسج العلاقات لحماية مصالحه ومصالح ذويه وأقربائه وأصدقائه عهد ولى منذ عقود وحتى في الماضي كان هؤلاء يُعَدّون على رؤوس الأصابع.
أما البرلماني الجديد فإنه يأتي إلى الرباط حاملاً هموم دائرته وجماعته (بلديته) يتجول بين أروقة الوزارات لحل مشاكل الطرق والماء والكهرباء والأراضي السلالية (الجماعية) والعلف ودعم الفلاحين وقضايا التجار الصغار، وتجهيز المستشفيات والمدارس المغلقة. هذا عمل مضن ومكلف ولكن لا يُرى ولا يكترث به من يكونون نظرتهم عن البرلمان فقط من خلال جلسات الأسئلة الشفوية.
البرلمانيون الذين ثبت في حقهم اختلاس بحكم وجودهم كرؤساء جماعات (بلديات) لا كبرلمانيين، معدودون على رؤوس الأصابع. ما يركز عليه الإعلام هم هؤلاء الخمسة (أو أكثر) من المفسدين وليس من الثلاثمائة ونيف الذين يقضون وقتهم يسائلون ويراسلون وينتقدون من أجل مصالح دوائرهم. شغف كبير لدى وسائل الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي بالفساد لا بالبناء، بتشييد سجن لا بالطرقات ونقط الماء وشعير العلف ومِنَحِ الطلبة وغيرهم. الفساد رغم قلة أصحابه مثير، يدغدغ العواطف، ويعطي فرجة إعلامية وفرقعات سياسية مزمجرة بعيداً عن رتابة الترافع من أجل بناء القناطر، وتأهيل القرى، وإعادة هيكلة الأسواق الأسبوعية، وتلقيح الأغنام، وتسجيل الطلبة في أسلاك الماستر والدكتوراه، ومساعدة الشباب على القيام بمشاريعهم.
إذا أردت الشهرة فعليك بالفساد: ستصل النجومية مجاناً لأن مئات المواقع ستكتب عنك ومواقع التواصل الاجتماعي ستعود لموضوعك ليل نهار. وإذا أردت أن يتجاهلك البعض بل وأن يتهموك بعدم فعل شيء فساعد في كهربة دواوير (كفور) دائرتك، وترافع من أجل أن يصل الماء إلى أبعد نقطة ليشرب الناس وترتوي الماشية، ودافع عن ضرورة تخصيص ميزانية للطرق في إقليمك. العمل شيء رتيب، ممل، إيجابي، يهم حياة الناس العادية والرتيبة، وهو بهذا ليس مادة دسمة مثل من امتطى سيارة فخمة إلى البرلمان أو أقام عرساً أسطورياً أو اختزن الملايين في قبو التبن داخل بيته، أو من اغتنى من الاحتكار. الفساد مادة إعلامية دسمة، والفساد والبرلمان مسلسل مكسيكي مثير، بينما بناء الطرقات وتجهيز المستوصفات فهي أمور ركيكة، رتيبة، مملة لا تستحق الإعلام ولا الإخبار. دعونا ننظر إلى من ينتقدون ويهاجمون البرلمانيين. جلهم طبقة متوسطة متعلمة، والبعض منها أنصاف متعلمين، متذمرة من أوضاعها، تقضي وقتاً طويلاً في التعبير عن سخطها من الأوضاع عبر وسائل التواصل الاجتماعي. وأغلب هؤلاء يُسقِطون هذا التذمر على البرلمان لأن البرلمانيين هم الحلقة الضعيفة في مؤسسات الدولة. وفي نفس الوقت فمقاصد النقد هي طبقية كذلك، أي أن الهجوم ينم عن انتقاد مُعلَن وضِمني لوضعهم الاجتماعي. كون أغلبية البرلمانيين هم كذلك من الطبقة الوسطى يجعل البعد الطبقي لهذا النقد وَهْماً عابراً ليس إلا. وكون من ينتقدون تربطهم علاقة طبقية حقيقية مع المستضعفين من الشعب من شباب عاطل ونساء ومجموعات هامشية وسكان البوادي وعمال موسميين وفقراء وكادحين، فإن هذا الوهم يصبح مُزْدَوَجاً. من وجهة نظر «النظرية الهامشية» لـ(راناجيت كوها وأصدقائه في جنوب شرقي آسيا) يبقى نقد البرلمان «بورجوازيا» حتى النخاع، أي أنه لا يرقى إلى تحليل طبقي حقيقي يأخذ بعين الاعتبار إنتاج وإعادة إنتاج علاقات السلطة بين أصحاب الامتيازات من جهة والفئات الهامشية من جهة أخرى.
مقولة «الوهم المزدَوَج» التي أدفع بها هنا استوحيتُها من اللوكاشية والفكر الهامشي وهي كفيلة لشرح أسباب الحرب الشعبوية على البرلمان في المغرب. أي أنها حرب حول الامتيازات داخل نفس الطبقة وليست حرباً طبقية بين من لهم وبين من هم على الهامش، كما يحلو لجيوش المنتقدين أن يصوروا ذلك.
* وزير مغربي سابق ونائب في البرلمان