فيتالي نعومكين
رئيس «معهد الاستشراق» التابع لأكاديمية العلوم الروسية/ موسكو
TT

عودة إلى عقود سابقة في الشرق الأوسط

سيوافق أي محلل على أن روسيا اليوم هي بلا شك القوة العالمية الوحيدة التي تحافظ بنجاح على علاقات شراكة مع جميع دول الشرق الأوسط، بما في ذلك الدول التي تعيش حالة من العداء فيما بينها. بيد أن الحفاظ على هذه العلاقات في بيئة من الاستقطاب المتزايد، والتناوب المستمر للاعبين، وظهور خطوط مواجهة جديدة في المنطقة بات أمراً أكثر صعوبة.
رغم أن موسكو منذ عهد الاتحاد السوفياتي استطاعت أحياناً لعب دور الوسيط في حالات الصراع، فإنها لم تنجح دائماً في لعبة دبلوماسية بارعة مثل تلك التي لا تزال تمارسها اليوم. فالمشاكل التي نواجهها اليوم في منطقة الشرق الأوسط، تخلق لديّ شخصياً إحساساً بنوع من «ديجافو»، أي «وكأن هذا سبق وشوهد من قبل»، رغم عدم إمكانية وجود تشابه كامل لما حدث في المنطقة منذ عدة عقود وما يحدث اليوم.
لكن دعونا نلجأ إلى التاريخ. فلقد جرى، كما هو الحال اليوم، في منطقة الشرق العربي بعد الحرب العالمية الثانية جنباً إلى جنب مع مواجهات «الحرب الباردة» على الأطراف، تحول متعدد الأوجه. كان الاتحاد السوفياتي ينظر حينها إلى الدول العربية «كتركة للإمبرياليين»، وربما كان لدى ستالين في البداية وهم بأن إسرائيل، بمكونها الاشتراكي القوي، يمكن أن تصبح نصيراً للمصالح السوفياتية. لقد عوّل على إمكانية إضعاف الاستعمار البريطاني من خلال إذكاء الاتحاد السوفياتي للتناقضات «الأنغلو - أميركية». القوى العظمى كانت تغير مواقفها باستمرار عن طريق المناورة. على سبيل المثال، في نهاية الحرب، طرحت موسكو فكرة الاستعاضة عن الانتداب البريطاني في فلسطين بالإدارة السوفياتية المؤقتة، ثم اقترحت إدارة جماعية من قبل الاتحاد السوفياتي والولايات المتحدة وبريطانيا، وبعدها دعمت مفهوم الدولة اليهودية العربية الواحدة، ووافقت أخيراً على تقسيم فلسطين. لقد أذهل خطاب نائب وزير الخارجية أندريه غروميكو في الجمعية العامة للأمم المتحدة في 14 مايو (أيار) 1947 كل العرب، وليس العرب وحدهم، حين تحدث لأول مرة عن «الشعب اليهودي». دعم موسكو لـ«المشروع الصهيوني» شكّل ضربة للشيوعيين العرب الموالين لها، الذين ضعف على أثر ذلك، نفوذهم السياسي على السكان إلى حد ميؤوس منه، حتى إنَّ أحد قادة الشيوعيين الفلسطينيين، إميل توما، كتب رسالة إلى موسكو انتقد فيها خطاب غروميكو.
لم تكن الحرب العربية - الإسرائيلية الأولى التي بدأت بعد إعلان قيام دولة إسرائيل مرتبطة بعد بالمواجهة العالمية بين القوتين العظميين. ولم تهتم الصحافة السوفياتية في ذلك الوقت بالمجزرة التي ارتكبها عناصر «الأرغون» و«ليحي» في قرية دير ياسين العربية في 9 أبريل (نيسان) 1948. وألقت الدبلوماسية السوفياتية في الأمم المتحدة باللوم على بريطانيا وبعض الأنظمة العربية الموالية لها في مصير الفلسطينيين المبعدين، وعارضت خطة «برنادوت»، التي لم تناسب إسرائيل، وفي ديسمبر (كانون الأول) 1948 صوت الاتحاد السوفياتي ضد مشروع القرار 194 - III، الذي ينص على عودة اللاجئين أو دفع تعويضات لهم. اعتقدت الولايات المتحدة أن الاتحاد السوفياتي كان يزود كلا المتحاربين بالسلاح من أجل قلب الأنظمة العربية وإيصال الشيوعيين إلى السلطة. فجأة، غيرت القوتان العظميان مواقفهما، حيث أعلنت الولايات المتحدة فجأة في 9 مارس (آذار) 1948، أن خطة التقسيم لا يمكن تنفيذها بشكل سلمي، ودعت إلى الإدارة المشتركة، وحينها فقط كان الاتحاد السوفياتي ضدها!
بيد أن آمال ستالين في استخدام إسرائيل لصالح موسكو لم تتحقق، وبدأت العلاقات السوفياتية - الإسرائيلية تتدهور بسرعة، ودخلت في أزمة حادة في عام 1952 - 1953 بعد قضية «الأطباء اليهود» الجنائية في الاتحاد السوفياتي. وفي عام 1955، بدأ التقارب التاريخي الصاعد بين الاتحاد السوفياتي والعالم العربي. بعد ذلك فقط، أصبح الصراع العربي - الإسرائيلي الذي طال أمده، المثال الأبرز للصراع الإقليمي في التاريخ، حيث كان أحد طرفيه مدعوماً من قبل الاتحاد السوفياتي وحلفائه، والآخر من قبل الغرب بقيادة الولايات المتحدة.
لكن الاتحاد السوفياتي، خلال أزمة السويس عام 1956. اتخذ واقعياً موقفاً مطابقاً لموقف الولايات المتحدة، عبر مطالبته بانسحاب قوات الدول الثلاث التي غزت مصر، وتهديده بفرض عقوبات عليها. أودُّ التذكير هنا بأن الرئيس الأميركي دوايت أيزنهاور، الذي لا يكاد يُحسب ضمن مجموعة المؤيدين المخلصين للتوسع الإسرائيلي، والذي ينتمي إلى الحزب الجمهوري نفسه الذي ينتمي إليه اليوم الرئيس ترمب، تحدث في عام 1957 عن إسرائيل في أزمة السويس قائلاً: «هل من الممكن السماح لأمة تهاجم وتحتل أراضي أجنبية في تحدٍ لإدانة الأمم المتحدة أن تضع شروط انسحابها؟ إذا قبلنا أن يتمكن المعتدي من تحقيق أهدافه من خلال هجوم مسلح، فأنا أخشى أن نعيد عقارب ساعة النظام الدولي إلى الوراء».
موسكو في ذلك الوقت كانت قد باتت بالفعل داعماً ثابتاً للعرب والحقوق الوطنية للشعب العربي في فلسطين، التي لم تتراجع عنها حتى وبعد أن أصبح لديها اليوم علاقات شراكة طبيعية مع إسرائيل. أما بعد حرب يونيو (حزيران) 1967. فقد قررت قطع العلاقات الدبلوماسية مع إسرائيل، الأمر الذي حرمها، من جزء كبير من الفرص الدبلوماسية والاقتصادية الضرورية لها.
عندما بدأت «حرب الاستنزاف» الإسرائيلية - المصرية في أواخر الستينات، كنت، بصفتي ضابطاً شاباً في الجيش السوفياتي في ذلك الوقت، أدرس في المعهد العسكري للغات الأجنبية. أطلقت موسكو، استعداداً لزيادة حادة في المساعدات العسكرية للجانب العربي، تدريباً سريعاً ومكثفاً لعدد كبير غير مسبوق من المترجمين العسكريين ذوي المعرفة باللغة العربية واللهجة المصرية - 120 شخصاً في الدورة، وهو ما يجعلنا نحكم على حجم المساعدة التي خطط لها.
في 7 يناير (كانون الثاني) 1970، صعّدت إسرائيل بشدة من مواجهتها مع مصر. وبعد اتهامها لمصر بانتهاك وقف إطلاق النار، شنت إسرائيل غارات جوية على أهداف مصرية في مناطق مكتظة بالسكان في البلاد في إطار استراتيجيتها الجديدة «الاختراق العميق». بهذه الاستراتيجية، كانت إسرائيل تأمل في محاصرة عبد الناصر وتهيئة الظروف لسقوطه. لجأ عبد الناصر إلى الاتحاد السوفياتي طلباً للمساعدة. وقال خلال زيارة سرية لموسكو، بدأت في 22 يناير، إنه إذا لم تقدم له موسكو مساعدة حاسمة، فسيتعين عليه التنحي وسيشغل مكانه رئيس موال لأميركا. في ظل هذه الظروف، اتخذ المكتب السياسي للجنة المركزية للحزب الشيوعي السوفياتي قراراً غير مسبوق بشأن المشاركة المباشرة في الدفاع الجوي المصري. كان من المفترض أن تتجه إلى هناك فرق أنظمة الصواريخ المضادة للطائرات مع أطقم قتالية، و150 طائرة بأطقم سوفياتية، ونحو 12 - 14 ألف جندي، بينهم 150 طياراً، و10 آلاف عامل فني لخدمة أنظمة الصواريخ المضادة للطائرات. تم نشر هذه القوات في فبراير (شباط) ومارس، وعندما وقع الاشتباك الأول مع سلاح الجو الإسرائيلي في منطقة الدلتا في أبريل، اضطرت إسرائيل للتخلي عن استراتيجية «الاختراق العميق». لم يساعد الدعم السوفياتي في حماية مصر من الهجمات الجوية الإسرائيلية فحسب، بل هيأ أيضاً الظروف لنجاح عمليات القوات المسلحة المصرية في حرب عام 1973.
بعد وفاة عبد الناصر، تخلص الرئيس السادات من أقرب مؤيدي عبد الناصر، وشرع في تغيير كبير في السياسة الداخلية، وقرر تغيير سياسته الخارجية تدريجياً. لم يكن الأمر يتعلق فقط بالميول الغربية للسادات، ولكن أيضاً عدم جدوى استمرار مسار عبد الناصر في «التوجه الاشتراكي»، الذي أعاق التحديث وأوقف النمو الاقتصادي. بالإضافة إلى ذلك، لم يعد بإمكان التحالف مع الاتحاد السوفياتي إعطاء مصر ما تحتاجه بشدة، أي السلام والأمن. في عام 1972، تلقت الولايات المتحدة هدية غير متوقعة من السادات عندما طرد العسكريين السوفيات من مصر. مرّت الحرب العربية - الإسرائيلية عام 1973 من دون دور موسكو القوي كما كان من قبل، وأدى شغل وزير الخارجية الأميركي هنري كيسنجر، بعد هذه الحرب، دور الوسيط بين القاهرة وتل أبيب، إلى تقليل مستوى تأثير موسكو على أزمة الشرق الأوسط. ومع طرد المستشارين العسكريين من مصر، فقد الاتحاد السوفياتي أهم وجود عسكري له في الشرق.
وإذ نتذكر التاريخ، يطرح السؤال نفسه: هل سيحل عصر المناورات الدبلوماسية الشاملة والعاصفة مرة أخرى اليوم في الشرق الأوسط؟ على أي حال، وكما قال رئيس الوزراء البريطاني هارولد ماكميلان ذات مرة لأيزنهاور، «الدبلوماسي الجيد يتذكر دائماً أنه يجب أن ينسى».