سوسن الأبطح
صحافية لبنانية، وأستاذة جامعية. عملت في العديد من المطبوعات، قبل أن تنضم إلى أسرة «الشرق الأوسط» بدءاً من عام 1988، كمراسلة ثقافية من باريس، ثم التحقت بمكتب الجريدة في بيروت عند افتتاحه عام 1995. تكتب بشكل رئيسي في المجال الثقافي والنقدي. حائزة درجة الدكتورة في «الفكر الإسلامي» من جامعة «السوربون الثالثة». أستاذة في «الجامعة اللبنانية»، قسم اللغة العربية، عام 2001، ولها دراسات وأبحاث عدة، في المجالين الأدبي والفكري.
TT

المؤرخون اللبنانيون الجدد

تفتح «إنستغرام» فتعثر على مؤرخين لبنانيين «مودرن»، يقدمون بوثائقيات قصيرة وحيوية، حكاية هذا الدير أو ذاك القصر، ويعيدون التذكير بتلك الواقعة. ومع احتفالية مئوية ولادة دولة لبنان الكبير، تسابق المؤرخون على تقديم رواياتهم حول الأحداث التي تقاطعت وتعارضت، ليخرج من رحمها، بلد لا يزال كل ما فيه موضع جدل. هؤلاء المؤرخون المجتهدون، موجودون أيضاً على «يوتيوب»، وبينهم من تستضيفهم التلفزيونات بشكل دوري، لإعادة تفكيك خلفيات الإخفاقات، وتبيان سبل الخلاص. نمو عدد الأدلاء الشباب، الذين كرسوا أنفسهم لتنظيم زيارات إلى الأماكن الأثرية، هي أيضاً من بين الظواهر التي تنامت في السنوات الأخيرة. وبقليل من البحث تعرف أن الكتب حول تاريخ لبنان، ارتفع الطلب عليها في المكتبات، خاصة بعد اندلاع ثورة «17 تشرين» وما تبعها من إخفاقات.
قصّرت المدرسة كثيراً في تعليم التاريخ، وبناء الهوية والمساعدة في تحديد الانتماء، وإنضاج الشخصية الوطنية بإبائها وتواضعها. ومع اندلاع الثورة، بدا للمتظاهرين اليانعين أن الحاضر يكفيهم، ومطلب إسقاط الطائفية يغنيهم عن البحث فيما هو أبعد، إلى أن اصطدموا بجدران وعقبات، وانهالت عليهم الصعوبات. أدركوا أن ثمة ما هو متجذر أكثر مما تصوروا. وجدوا أسئلتهم كثيرة وبلا إجابات، حكاياتهم مبتورة، وصورتهم عن أنفسهم غير مكتملة.
بعضهم يسأل عن الكتاب الأفضل، والمؤرخ الأكثر موضوعية. هنا تجد نفسك أمام جدار آخر. فكتب التاريخ اللبناني على كثرتها، وجهات نظر، عليك أن تقرأ كثيراً لتتشكل لديك صورة أولية، عما تبحث عنه. ففي بلاد الأهواء والآيديولوجيات المتصارعة، يقدّم الكتّاب أطروحتهم على موضوعيتهم، إلا ما ندر.
في الأول من سبتمبر (أيلول) الماضي، جاء إيمانويل ماكرون إلى قصر الصنوبر في بيروت، ليستذكر مع اللبنانيين إعلان الجنرال الفرنسي غورو، من المكان نفسه قبل قرن من الزمن، عن ولادة الدولة اللبنانية بحدودها الحالية. لم يعد من خلاف على أن لبنان أصبح وطناً نهائياً لأبنائه، لكن ثمة وجهات نظر حول الصيغة التي وضعت، ورسخت، وتأثيرها على ما تلاها. ثمة من يعتبر أن ما حصل قبل مائة سنة، هو أفضل ما كان يمكن أن يكون، وأن البطريرك الماروني إلياس الحويك بالدور الذي لعبه لدى الفرنسيين هو المؤسس للبنان وواضع لبناته الأولى. لكنها ليست الرواية الوحيدة، فقد أثار مؤرخ شاب على «إنستغرام»، وجهة نظر أخرى، معتبراً أن حكاية لبنان تتجسد في صراع بين شقيقين؛ إلياس الحويك، البطريرك الماروني الذي وثّق علاقته بالفرنسيين، وحصل على دولة لبنان الكبير، مكرساً فيها نفوذ الطوائف ورجال الدين، بينما كان أخوه سعد الله الحويك في الوقت نفسه، عربي الهوى، يخالفه الرأي، ويقيم علاقات مع الأمير فيصل في سوريا، وكان نائب المتصرف لفترة طويلة وعضواً بمجلس إدارة المتصرفية. ولم يكن سعد الله وحيداً في رفضه لفكرة دولة ائتلاف الطوائف، بل شاركه الرأي ثمانية من أصل 13 وهم أعضاء مجلس إدارة المتصرفية. لكن عندما توجه هؤلاء المعترضون على تمكين الحلفاء، لمقابلة الأمير فيصل في الشام والاتفاق معه على تقليص نفوذ الكنيسة واعتماد العلمانية واستقلال لبنان التام، مع الحد من نفوذ فرنسا، تم إلقاء القبض عليهم من قبل الجنرال غورو وتخوينهم ونفيهم إلى كورسيكا. ويعتقد المؤرخ الشاب شارل حايك الذي يحظى بآلاف المتابعين، أن فكرة لبنان كفيدرالية للطوائف التي سعى لها البطريرك إلياس الحويك هي التي انتصرت وتم الترويج لها، ولو أن سعد الله ومن معه كتب لهم الفلاح لربما كان وجه المنطقة، أو لبنان على الأقل، مختلفاً اليوم. ومن هنا يدعو إلى إعادة قراءة طرح الشقيقين اللذين حلم كل منهما بلبنان على صورة مختلفة عن الآخر. وبما أن دولة الطوائف تنهار، فلماذا لا نعود إلى رؤية سعد الله، بعد أن جربنا طرح أخيه، لعل فيها نفعاً كثيراً؟!
وتقرأ المؤرخين فتجد الأهواء تعبث في الكتب، وتحرك المعلومات، وتحث على استنتاجات، وتدفع إلى خلاصات، كان يفترض بالباحثين التروي قبل إطلاقها. فالمواطن الغض اليوم بحاجة إلى معرفة الحدث البكر، إلى الرواية كما هي في الأصل، لتكون له حرية الاستنباط، بدل تكبيله برؤى جاهزة.
إذ يكاد يكون عدد الروايات، بعدد المؤرخين، وقلة من احترموا قارئهم، وتركوا له خيار أن يطلع على ما جاءت به المصادر بعذريتها، ونقائها.
وإذا عدت إلى المدرسة وجدت الحقب مقطعة مجزأة، والأحداث بلا نبض، عصية على ترسيخها في ذهن الأطفال. وخط الزمن في نظر الطالب عموماً، غير موجود، بحيث لا يعرف السابق من اللاحق، ولا يرى فيما يقدم له امتداداً لحياته، وعلاقة بأجداده، بقدر ما يجد فيها نصاً للحفظ والتسميع، ومن ثم النسيان.
وبغياب النخب، وتضارب الروايات، وتوظيف الأحداث سياسيا، تصبح الضحية الأولى هي الحقيقة. والشكوى الأكبر هي من فوضى الإجابات عن أسئلة وجودية: لماذا وصلنا إلى هنا؟ وما سبب هذا التمسك بنظام طائفي فاشل، وقد تبين أنه مقتلة؟ والحنين المرضي لزعيم الطائفة رغم أنه لا يختلف عن ديكتاتور يمارس كل أنواع العسف؟ وقبل نصف قرن، كان سؤال الكتّاب، من محمد أركون إلى حسن حنفي، ومحمد عابد الجابري، شبيهاً بأسئلة رواد النهضة، لماذا فشلنا حيث نجح الآخرون، وتأخرنا بينما هم تقدموا؟ وبعد 50 سنة أخرى، لا يزال الشباب اللبنانيون يقفون عند المفترق نفسه ويسألون، لماذا نعرف العلة، ولا نقوى على علاجها؟ وما الذي يجعل النظام الطائفي وكأنه حبل الخلاص الوحيد، مع أنه بعد التجربة تأكد أنه لا يقود إلا إلى مكان واحد: جهنم؟!