حسين شبكشي
رجل أعمال سعودي، ومستشار اقتصادي لعدد من الشركات الخليجية الكبرى، وعضو مجلس إدارة ورئيس مجلس إدارة في عدد من الشركات السعودية والأجنبية. نشر العديد من المقالات في مجالات مختصة، وفي صحف ومجلات عامة في العالم العربي. اختير عام 1995 «أحد قادة الغد» من قبل «المنتدى الاقتصادي العالمي» في دافوس. أول رجل أعمال سعودي وخليجي ينضم إلى «منتدى أمير ويلز لقادة الأعمال».
TT

مجتمعات خالية من الثقافة!

ايجناسي بادرفيسكي، ولمن لا يعرفه هو موسيقار بولندا الكبير، والأشهر في تاريخها، وعازف آلة البيانو الأبرز والأبرع، الذي أصبح بعد ذلك المتحدث باسم استقلال بلاده بعد الحرب الكونية العظمى، وبعدها تطور همه السياسي، وتولى منصب رئيس الوزراء، وكان هو من وقع على اتفاق مؤتمر باريس وكذلك على معاهدة فرساي.
في مؤتمر باريس قابله رئيس الوزراء الفرنسي جورج كليمونصو لأول مرة، فتساءل بفضول ورغبة في المعرفة عما إذا كان بادرفيسكي السياسي هذا، هو من نفس عائلة بادرفيسكي الموسيقار الأسطوري العظيم، فصدم بالإجابة التي أتته عندما قيل له إنهما نفس الشخص، وتحسر كليمنصو متعجباً من فكرة أن «ينحدر الحال ويهبط بفنان ومثقف كبير بمكانته، ويقبل أن يتولى رئاسة الوزراء!».
قد يبدو هذا الرأي صادماً أو مبالغاً فيه أو حتى غير قابل للتصديق لدى عدد غير قليل من الناس إلا أنه حقيقة، وهذا يعود لاختلاف معايير التقييم بين الثقافات والشعوب.
مكانة المثقف في مجتمعه ودور الثقافة فيه. أسئلة قديمة متجددة مستمرة. الكاتب المغربي الكبير عبد الله العروي، تطرق إلى هذه المسألة بعمق مهم في كتابه الشهير «أزمة المثقف العربي»، ومن قبله سبق أن تطرق إليها الفيلسوف والمفكر المصري زكي نجيب محمود، في كتابين «هموم المثقفين» و«ثقافتنا في مواجهة العصر».
الثقافة مشروع معرفي إنساني الغاية، منه مد الجسور وكسر الحواجز وفتح الآفاق، ولا بد أن ينعكس ذلك الأمر على من يديره بشكل أخلاقي، فيكسبه روحاً متسامحة خالية من العنصرية مصحوبة بحسن ظن عالٍ ينعكس على المجتمع بصورة عامة، أما إذا لم يحدث ذلك فلا يمكن تسميته بثقافة وإنما «تسالي» وملء فراغ.
أتابع باهتمام المشاريع الثقافية الرسمية والأهلية الخاصة المقدمة في العالم العربي، فأصاب بحالات متفاوتة من الأمل والإحباط. فالثقافة لا تزال تعامل كشأن نخبوي، وهو ما يفسر غياب الجرعة الثقافية عن المناهج والمقررات التعليمية في العالم العربي، وبالتالي تتخرج أجيال وراء أجيال من الممكن أن يطلق عليها وصف «متعلمة»، ولكن من الصعب أن تسمى «مثقفة». تذكرت هذا الأمر وأنا أسترجع الاحتفائية الماكرونية بالرمز الثقافي الأهم في لبنان اليوم السيدة فيروز، وتعجبت كيف أن لبنان الذي أنجب فيروز وجبران خليل جبران وميخائيل نعيمة والأخوين الرحباني يقف عاجزاً عن تقديم ساسة على نفس المستوى المشرف، علماً بأنه عندما سمح لبعض النماذج المثقفة بأن تشارك في العمل السياسي من خلال نافذة محدودة وضيقة أبلوا بلاءً جيداً للغاية مثل غسان تويني وفؤاد بطرس وميشال اده وغسان سلامة. تطرق العديد من الباحثين إلى أزمة دور الثقافة في المجتمعات العربية، وكتب فيها كتاب كبار، كلٌ أدلى بدلوه مثل جورج طرابيشي وهشام شرابي وإدوارد سعيد ومحمد عابد الجابري وعلي حرب وغيرهم بالتأكيد. منها ما كان مؤثراً ومنها ما بقي على الهامش تماماً، ولكن الأزمة تبقى قائمة لأنَّ غياب الثقافة بمفهومها الحر سيبقي المجتمعات منغلقة عن ركب الأمم بالمعنى المدني والمعنى التنموي أيضاً. ولعل الليبي الراحل الكبير الصادق النيهوم، وأهم مثقفي هذا البلد قال مقولته الشهيرة في وصف دقيق لدور الثقافة في المجتمعات بقوله: «الشعوب التي تفشل في تشخيص أمراضها بشجاعة، تموت نتيجة تناول الدواء الخطأ». الروائي المصري وطبيب الأسنان علاء الأسواني في روايته المهمة «عمارة يعقوبيان» استشرف فيها التغيرات التي حصلت بعنف في مفاصل المجتمع المصري، وظهور كائنات طفيلية غريبة تطفو على سطح المشهد وتسيطر عليه، وأطلق صيحة على لسان بطل الرواية وبقيت خالدة وتردد عندما صرخ: «إحنا في زمن المسخ». وقد تكون العبارة التي تشمل الدور المنشود للثقافة هي ما أبداه أحد أهم رجال القرن العشرين الرئيس الراحل الجنوب أفريقي الكبير نيلسون مانديلا عندما قال: «لا يوجد بلد يمكن أن يتطور حقاً ما لم يتم تثقيف مواطنيه».
دور الثقافة بمفهومها العريض كان محورياً في عصر النهضة في أوروبا، وكان لها دور أساسي في إخراجها من ظلمات القرون الوسطى، وكذلك في استقلال الولايات المتحدة، والثورة الفرنسية وصولاً إلى استقلال دول أميركا الجنوبية والهند. تغييب الثقافة عن دورها المنشود سيولد مجتمعات تقرأ وتكتب، ولكن لا تفكر وبالتالي لا تبدع.