خالد البري
إعلامي وكاتب مصري. تخرج في كلية الطب بجامعة القاهرة، وعمل منتجاً إعلامياً ومراسلاً سياسياً وحربياً في «بي بي سي - عربي»، وغطى لحسابها «حرب تموز» في لبنان وإسرائيل، وعمل مديراً لمكتبها في العراق. وصلت روايته «رقصة شرقية» إلى القائمة النهائية لـ«بوكر العربية».
TT

البند المهمل في رسم سياسة الدول

الدول النامية تبحث عن التطور في دساتير الدول المتقدمة. تحاول أن تحدد العامل «السحري» النشط الذي جعل الحال متفاوتاً. والإجابة المعتادة عند النخب المتعلمة في الدول النامية، ونخب في الدول الغربية، أن هذا العامل هو الديمقراطية.
والحق الحق أقول لكم هذه إجابة خاطئة. ليس لأن الديمقراطية شيء سيئ، بل لأنها عرض لا سبب. وسأضرب مثلاً طبياً رياضياً.
الحمل التدريبي لرياضي يهدف إلى أن يصير قادراً على الركض تسعة أميال متواصلة. على هذا اللاعب أن يمر بفترة علاج طبيعي، ثم تدريبات بدون كرة، ثم تدريبات بكرة، ثم مشاركة في التقسيمات، ثم مشاركة في المباريات الودية. نتيجة لهذا البرنامج التدريبي تتحسن لياقته ويصير قادراً على تحقيق المستهدف.
اللياقة البدنية عرض دال على حالته الصحية، وليس مسبباً لها. إن استطاع أن يركض تسعة أميال خلال المباراة فهو صحيح طبياً، لكن لا يمكنك أن تحسن حالته الطبية بإجباره على الركض تسعة أميال.
وهكذا الديمقراطية، عرض لمجتمع تعددي. تتعدد مصادر النفوذ الاقتصادي ومن ثم السياسي فيه. تتعدد الأفكار. فتكون الديمقراطية انعكاساً لهذه التنوعات والتوازنات، وآلية عمل يمكن من خلالها إدارتها.
علينا إذن أن نبحث من جديد عن العامل السحري النشط الذي تسبب في تنوع مصادر النفوذ الاقتصادي، وتنوع الرؤى، وتجاورها في مجتمع واحد.
والمساهمة الأكثر لفتاً للنظر في هذا السياق هي تلك العبارة من إعلان الاستقلال الأميركي، التي توجز الحقوق الطبيعية للإنسان: «الحياة، الحرية، والسعي إلى السعادة».
الحقوق الثلاثة بهذه الصياغة توجز العقل الفلسفي الذي بنى الولايات المتحدة. من هذه الرؤية المتميزة لمجتمع، نشأت قوانينه، لتضع ممرات الحريات وتنظمها، كما ينظم المرور السيارات لتجنب التصادم. ومن الحرية والسعي إلى السعادة يخرج التميز، تتنافس المواهب، تتراكم الثروات ومعها النفوذ.
مراكز النفوذ، كما الحريات، قد تتقاطع، وتتكدس، وتسد الطريق على بعضها البعض. هنا نحتاج إلى آلية مرور أخرى، فتكون الديمقراطية.
الديمقراطية العددية من دون مفهوم «السعي إلى السعادة» تنتج ما تسعى إليه. الديمقراطية في مجتمع جهادي تنتج دولة جهادية، والديمقراطية في مجتمع ميليشياوي تنتج أجنحة سياسية لتنظيمات مسلحة، والديمقراطية في مجتمع متشدد تحول التشدد الديني من خيار فردي إلى قوانين ملزمة.
ليس هذا تصوراً خيالياً. الكتلة الشرقية حاولت فعلاً تطبيق مفهوم الديمقراطية بدون صيانة الحريات الشخصية الأساسية. سلطة مركزية تعبر عن أغلبية الشعب عددياً، وتختصر حريات الأفراد من أجل أولويات الكتلة، وبتقييد التملك لا تسمح بنشأة مراكز نفوذ اقتصادية. والنتيجة رآها العالم في تجربة واسعة. رأينا في الشرق الأوسط أيضاً نماذج لديمقراطيات عددية في مجتمعات لا تكفل للمرء حريته في البحث عن سعادته. فكانت الديمقراطية العددية تقنيناً للشقاء وتحكم القوة العضلية.
لكن ما هي تلك السعادة التي يفترض أن نسعى إليها؟ لا نعرف.
ما نعرف أن الناس تسعى إليها بطرق مختلفة. هناك من يجدها في تعبد ديني، وهناك من يجدها في النجاح المهني، وهناك من يجدها بنمط عيش منفتح. وأن الطريقة الوحيدة لضمان تكييف تلك الرغبات المتباينة في نسق واحد هي الحريات والقانون.
الدولة هنا لا تتبنى نمطاً واحداً من السعي الفردي إلى السعادة وتلزم به الأفراد. ليس وظيفتها حث الناس على التعبد الديني، ولا إلزامهم بالنجاح المهني، ولا إجبارهم على العيش المنفتح. وظيفتها أن تسهل لهم طريق السعي إلى ما يريدون، ما داموا لا يخالفون القانون. وظيفتها أن تدافع عن حريتك في تقصي طريق السعادة كما ترى، ما دمت لا تتعدى على حريات آخرين.
الإصلاح السياسي من ثم لا يبدأ بالديمقراطية، بل من الحريات الشخصية، الحريات التي دافعها البحث عن السعادة، كل على طريقته. الحريات التي تسمح بتراكم رأس المال، وتعدد مراكز نفوذه. وتسمح بالمغامرة. وتجعل من الحياة السعيدة سبباً قوياً للدفاع عنها.
على قدر بساطة الفكرة، والمسافة التي تبدو ضئيلة، معدومة الحواجز، بين السعادة والميل الإنساني إليها، فإن العقول قلما تستدعيها إذ تفكر سياسياً. ولن تجد أن «السعي إلى السعادة» رائج بين الناس كهدف سياسي.
السبب - من وجهة نظري - ما يبدو من تفاهة العبارة، وبُعدها عن العمق، والصورة النمطية للكفاح والنضال. الشعارات السياسية تميل إلى تمثل الصراع، والمصارعة، وليس تمثل السعادة. تخيل أن تسأل مناضلاً سياسياً ما قضيتك، فيجيبك «تكسير الأغلال، ونشر المساواة والإخاء»، بينما يجيبك آخر «السعي إلى السعادة». ستشعر مخطئاً أن الأخير «جاي يهرج».
كم من دولة في منطقتنا المنكوبة بأفكارها كانت مؤهلة لأن تعيش شعباً كريماً في وطن سعيد، لكن خياراتها التي لا تقدر «السعي إلى السعادة» حق قدره أوردتها موارد أخرى.
السعي إلى السعادة يبدأ من الإصرار على ترتيب الأولويات بحيث تكون جودة حياة المواطنين رقم واحد، لا البطولة. هذه رؤية - على بساطتها - لا تأتي تلقائياً إلى الزعماء.
السعي إلى السعادة تغيير في المفهوم والمنطلق في فلسفة النظر إلى الحياة. هذه أفكار للمجتمع كحرارة الجسم، ونبضه وأنفاسه. قياسها دليل على صحته أو مرضه.