كلارا فيريرا ماركيز
TT

الحرب الاقتصادية القائمة.. تداعياتها ومن يكسبها؟

تعتزم الولايات المتحدة نشر أسلحتها الاقتصادية بصورة لم يسبق لها مثيل، من خلال استخدام نظام العقوبات أحادية الجانب في معاقبة الحكومة الصينية على تآكل نظام الحكم الذاتي في هونغ كونغ، وسوء المعاملة الذي لحق بأقلية الإيغور المسلمة في شمال البلاد. وتشير تجربة العقوبات الاقتصادية الغربية مع الحكومة الروسية من قبل إلى أن جهود واشنطن الرامية إلى فرض التغيير الحقيقي في تصرفات الحكومة الصينية من غير المرجح أن تؤتي ثمارها، حتى مع بقاء الإجراءات سارية المفعول لمدة سنوات.
كانت الولايات المتحدة قد أدرجت تكتلاً اقتصادياً صينياً قوياً، وعدداً من المسؤولين، على القائمة السوداء للعقوبات بشأن انتهاكات حقوق الإنسان في إقليم شينغيانغ، بدءاً من نهاية يوليو (تموز) الماضي، تماماً كما اقترح الرئيس دونالد ترمب اعتزامه حظر تطبيق مراسلات الفيديو الشهير «تيك توك» المملوك للصين. وفي أوائل أغسطس (آب) من العام الحالي، وبعد مرور أسابيع قليلة من تمرير الحكومة الصينية قانون الأمن القومي المتعلق بهونغ كونغ، اتخذت الحكومة الأميركية الخطوة الأكثر صرامة على الإطلاق، من خلال استهداف السيدة كاري لام - وهي المديرة الحكومية الصينية لإقليم هونغ كونغ - على قائمة العقوبات، فضلاً عن عدد قليل من المسؤولين الآخرين. ومن شأن قانون هونغ كونغ للحكم الذاتي الذي أقرته الحكومة الأميركية في يوليو من العام الحالي أن يوسع من قاعدة العقوبات، ويستهدف عدداً من المسؤولين المصرفيين هناك أيضاً.
وكانت آلية العقوبات الأميركية تستهدف بصفة عامة البلدان المارقة الأصغر حجماً وقوة ونفوذاً. ولكن ذلك ليس على الدوام، على الرغم من كل شيء. فلقد تعرضت الحكومة الروسية على نحو تدريجي لتدابير أكثر صرامة منذ عام 2014، وذلك في أعقاب إقدام الكرملين على ضم شبه جزيرة القرم، ثم إسقاط إحدى طائرات الركاب فوق أوكرانيا. وكان الاقتصاد الروسي - قبل تطبيق التدابير العقابية الغربية - يبلغ حجمه المنفرد ضعف حجم البلدان الأخرى الخاضعة للعقوبات الاقتصادية الأميركية مجتمعة. ويشكل استهداف ثاني أكبر اقتصاد على مستوى العالم خطوة تصعيدية جديدة من جانب واشنطن. ومع ذلك، ما تزال تجربة العقوبات الاقتصادية على روسيا تطرح بعضاً من التلميحات لما يمكن توقعه من ورائها.
الدرس الروسي الأول يتمثل في أن نجاح العقوبات بعيد المنال، بصرف النظر عن كيفية تعريف ذلك النجاح. ومن المؤكد أن الجهود العقابية الأوروبية والأميركية لم تسفر حتى الآن عن دفع الحكومة الروسية إلى عكس الخطوات المتخذة من جانب واحد فيما يتعلق بشبه جزيرة القرم. ومثل هذا التحول الجذري في السياسة سوف تكون آثاره غير اعتيادية على أي حال. وخلصت دراسة حول العقوبات الاقتصادية، أجراها الخبير الاقتصادي مانويل أوشلين لدى جامعة لوسيرن في سويسرا، إلى أن الاستعانة بحِزم العقوبات لتعزيز تغيير الأنظمة الاستبدادية الحاكمة - في أقصى نتائجها المحتملة - تحمل معدلات نجاح طفيفة للغاية. ويستشهد البروفسور أوشلين بأرقام تعكس أنه من عام 1914 حتى عام 2000، ومن خلال دراسة 57 حالة من العقوبات الاقتصادية، حققت 12 حالة منها فقط نجاحاً جزئياً على أقصى تقدير ممكن. ومع ذلك، لا تتعلق العقوبات الاقتصادية بإجبار الحكومات الأخرى على التغيير فحسب، بل إنها تهدف أيضاً إلى تقييد الخطوات الأخرى التي ربما تتخذها تلك الحكومات، وتشجيع التسويات السياسية، وإعلام الجماهير المحلية والدولية بمجريات الأمور ومستجداتها. ومن الممكن القول إنَّ العقوبات الاقتصادية قد شجعت الحكومة الروسية على ضبط النفس فيما يتعلق بالحرب الانفصالية في شرق أوكرانيا، وهذا من الإشارات المهمة بالنسبة إلى هونغ كونغ وإلى الصين. ففي حين أن الحكومة الأميركية قد لا تكون قادرة تماماً، على عكس سلطات الحكم الذاتي المنزوعة عن الإقليم، فإن ارتفاع تكاليف الفرصة البديلة قد يشجع بكين على اعتماد مزيد من الحيطة والحذر في الخطوات المقبلة بشأن تلك القضية. ومع ذلك، فإن هذه النتائج لتلك العقوبات مشكوك فيها، وهي عصية على القياس السليم. فهناك كثير من الدلائل على أن روسيا، وزمرة كبار رجال الأعمال لديها، قد تأقلموا مع حزمة العقوبات الغربية، ويتوقعون استمرار مسار العقوبات على منواله من دون تغيير، وأن الاقتصاد الروسي صار أكثر اعتماداً على نفسه عن ذي قبل، حتى إنْ كان يحقق النمو بوتيرة بطيئة عن السابق. وبكل بساطة، أبدى الكرملين الروسي استعداداً كبيراً لتحمل التكاليف ذات الصلة بالتمسك بشبه جزيرة القرم كافة. وبالنسبة إلى الصين التي تعد قضية هونغ كونغ غير خاضعة أو قابلة للتفاوض بشأن وحدة أراضيها، فإنها صارت أفضل استعداداً عن الماضي في متابعة مثل هذه السياسات ذات الصبغة السيادية الواضحة.
ولا يفيد في شيء أنه من الصعوبة بمكان - على الدوام - الوقوف على الأضرار الناجمة عن حِزم العقوبات الاقتصادية المفروضة هنا أو هناك. ففي روسيا نحو عام 2014، تسبب انهيار أسعار النفط عالمياً في مزيد من الأوجاع الاقتصادية القوية الواضحة، رغم الآلام الموازية الناجمة عن العقوبات الاقتصادية الغربية. وفي هونغ كونغ، سوف يكون من الصعب على نحو مماثل الفصل بين الآثار الناجمة عن العقوبات الاقتصادية وتلك الناجمة عن شهور من الاحتجاجات الشعبية المناهضة للحكومة المركزية في بكين، تلك التي أعقبها على الفور وقوع كارثة وباء فيروس كورونا المستجد التي ألمت بعموم البلاد في وقت وجيز.
ومن الرسائل الأخرى التي تبعث بها الحكومة الروسية أن استهداف الاقتصادات العالمية الكبرى بحِزم العقوبات الاقتصادية يمكن أن يرجع بتداعيات اقتصادية أشد أثراً وغير مقصودة، فضلاً عن مخاطر الخطوات الانتقامية الأوسع نطاقاً.
وتحظى الولايات المتحدة بدور كبير مؤثر في النظام العالمي الراهن، فضلاً عن القوة الدولية الكبيرة التي يملكها الدولار الأميركي، مما يمنح الحكومة الأميركية قوة غير متكافئة على الصعيد العالمي. وتعني العقوبات الاقتصادية الثانوية - على وجه الخصوص - استهداف المصارف، حتى تلك التي تعمل خارج حدود الولايات المتحدة.
غير أن ذلك لا يمنع الاقتصادات الكبيرة من الاستجابة ورد الفعل. ولا توجد لدى بكين النسخة المحلية من بيروقراطيات العقوبات الاقتصادية، ولا تملك الحكومة الصينية مكتباً لمراقبة تحركات الأصول الأجنبية، ولكنها كانت في الماضي - ويمكنها ذلك الآن - تتحول إلى ما تُحسن استغلاله تماماً: أعداد هائلة من السياح، والمعادن النادرة في جوف الأرض، والقاعدة الواسعة من مستهلكي المنتجات الأميركية من شاكلة هواتف الآيفون الذكية على سبيل المثال. كما يمكن لبكين الشروع في التخلص من هيمنة الدولار الأميركي على التجارة العالمية، مع محاولة الاستغناء عن شبكة (سويفت) الأميركية للمدفوعات الدولية. وعلى الجانب الروسي، تتلقى موسكو مزيداً من اليورو أكثر مما تحصل على الدولار الأميركي مقابل صادراتها إلى الصين، وهذا مما يضيف زخماً معتبراً في خاتمة المطاف. كما أن للولايات المتحدة نقاط ضعفها المعروفة أيضاً، مثل الديون المتراكمة. وهناك كثير من الشركات والأعمال المملوكة للولايات المتحدة في داخل هونغ كونغ وخارجها التي تقع في مرمى النيران التجارية والاقتصادية الصينية بكل سهولة.
- بالاتفاق مع «بلومبرغ»