د. جبريل العبيدي
كاتب وباحث أكاديمي ليبي. أستاذ مشارك في جامعة بنغازي الليبية. مهتم بالكتابة في القضايا العربية والإسلامية، وكتب في الشأن السياسي الليبي والعربي في صحف عربية ومحلية؛ منها: جريدة «العرب» و«القدس العربي» و«الشرق الأوسط» اللندنية. صدرت له مجموعة كتب؛ منها: «رؤية الثورات العربية» عن «الدار المصرية اللبنانية»، و«الحقيقة المغيبة عن وزارة الثقافة الليبية»، و«ليبيا بين الفشل وأمل النهوض». وله مجموعة قصصية صدرت تحت عنوان «معاناة خديج»، وأخرى باسم «أيام دقيانوس».
TT

السلاجقة الجدد والتلاعب بالخرائط

هل صدق المؤرخ وول ديورانت صاحب «قصة الحضارة» حين قال إن «الأتراك كانوا الأكثر دموية في التاريخ»؟
واليوم نرى إردوغان نفسه يتغنَّى بماضي السلاجقة الدموي، حيث قال إن «تاريخ الأمة التركية لم يبدأ في 29 أكتوبر (تشرين الأول) العام 1923، يوم إعلان الجمهورية، بل إنَّ هذا التاريخ امتداد لما سبقه. إذ قبل 9 قرون كان بطل من الأناضول يخوض معركة مكلفة لحماية دمشق والقدس، إنه السلطان السلجوقي كيليتش أرسلان».
حلم إردوغان بعودة النفوذ العثماني وإحياء الدولة السلجوقية، هو سبب عقدة ماضوية، مع تكرار نشر صور لخرائط أسطورية خيالية مزورة تتلاعب بالجغرافيا، ظناً منه أنَّ تزوير خرائط الماضي يجعل منها حقائق وإرثاً تاريخياً في الحاضر، وهذا ما لم يستوعبه إردوغان وأنصاره من نشرهم الخرائط المزورة، ومنها خريطة عهد السلاجقة التي نشرها أحد أنصار حزب العدالة والتنمية الحاكم، والتي ترسم «حدود» تركيا الأسطورية من عمق بلغاريا واليونان، إلى وسط جورجيا والعراق وسوريا، ومن قبلها خريطة الوطن الأزرق؛ حيث ظهر إردوغان وخلفه خريطة مكتوب عليها «الوطن الأم الأزرق»، وهي تشكل فيها مساحة 462000 كيلومتر، وهي تغطي الحدود البحرية التركية من بحر إيجه، وكذلك جزر ليمنوس ولسبوس ورودس وشيوس، وهي تمثل جزءاً من اليونان، في محاولة مفضوحة، ليس لتزوير التاريخ والتلاعب بالجغرافيا فحسب، وإنما لإضفاء شرعية على الاستعمار، ونهب ثروات الشعوب.
معركة «ملاذكرد» عام 1071م، التي يتغنى بها إردوغان، هي التي سمحت بالتتريك التدريجي للأناضول، حين تمكن السلطان السلجوقي، ألب أرسلان، من هزيمة جيش بيزنطي، بفضل العرب من المسلمين في جيشه وبسالتهم، ما فتح الطريق أمام الأتراك للانتشار في آسيا الصغرى، لكن إردوغان لم يتجاهل شركاء النصر فحسب، بل يريد أن يستولي على أراضيهم وخيراتهم، وهكذا الحكام الأتراك على مر التاريخ، لا يذكرون جميلاً ولا يعترفون بفضل، ما يؤكد أنَّ الخلافة العثمانية لم تكن خلافة إسلامية، بل كانت مجرد واجهة لإمبراطورية طورانية مشحونة بالحقد على باقي القوميات ومنها، وعلى رأسها القومية العربية.
وها هو إردوغان يعيد الكرة من خلال سعيه إلى تأسيس دولة الخلافة، إحياءً للإمبراطورية العثمانية المنهارة، التي من أجلها يقتل العرب ويشردهم في الآفاق، ويبني المساجد لدغدغة مشاعر المسلمين، إضافة إلى أنه احتل شمال سوريا، وشرد أهلها، وها هو يعربد فيها يعلم أطفالها اللغة التركية، ويمنع اللغة العربية لغة القرآن. هذا الرجل غريب الأطوار يتوسع باسم الإسلام، ويفعل ما هو ضد الإسلام.
إن سياسة ابتلاع أجزاء من الجغرافيا سبق أن مارستها تركيا عندما ابتلعت لواء الإسكندرون، ومارستها إيران عندما ابتلعت الأحواز العربية.
إردوغان تائه بين سيرة السلجوقي طغرل بك، والسلجوقي ألب أرسلان، وسياسات عراب العلمانية كمال أتاتورك، الذي يضع صورته في مكتبه وقاعة استقبال الضيوف، ليظهر نفسه بمظهر العلماني، وما هذا السلوك إلا سلوك «الجماعة الإخوانية» التي تنتظر الوقت المناسب للانقضاض على الأتاتوركية وسحقها من جذورها.
إردوغان الذي حول كنيسة آيا صوفيا مسجداً، رغم أنها في الأصل كانت كنيسة قبل فتح القسطنطينية، وهو نفسه المتغني بأساطير السلطان السلجوقي ألب أرسلان، قال مرة زاعماً: «إن انتصار الأتراك في معركة ملاذكرد غيّر مسار التاريخ في العالم»، وذلك في إشارة لانتصار السلاجقة على البيزنطيين، في محاولة إسقاط تاريخي على صراعه مع اليونان، متناسياً هزيمة العثمانيين في اليمن، وفي مدينة عدن تحديداً، والتي كلفتهم 80 ألف جندي. ويحاول الإيرانيون الآن أن يعيدوا كرة ما فعله الأتراك فيه، لكن هؤلاء لا يتعلمون من التاريخ الذي سينقلب عليه بالتأكيد.
فمن خلال هذا التاريخ المزور، انطلق مشروع إردوغان الوهمي «لإحياء» العظام، عظام الدولة العثمانية، حتى بتزوير الدراما التلفزيونية بدعم منه شخصياً، لإنتاج مسلسلات تمجد حكام الدولة العثمانية، مثل مسلسل «المؤسس عثمان»، ومسلسل «قيامة أرطغرل»، و«عاصمة عبد الحميد»، ومسلسل «محمد الفاتح».
إردوغان المشحون بالحقد القومي وعقدة الأمة الطورانية، وجد في «جماعة الإخوان» حصان طروادة لاحتلال بلاد العرب وتدميرها ونهب ثرواتها وتحقيق مطامعه، في مناطق عربية عدة، مثل سوريا والعراق وليبيا، وهو الذي اتخذ من وجود مقابر تعود لقادة أتراك عثمانيين في ليبيا ومناطق شمال سوريا، ذريعة لتبرير العبث بالديموغرافيا العربية، بل تطاول على الليبيين بالقول إن ليبيا «إرث أجداده»، وجغرافيتها جزء من الإمبراطورية العثمانية، وإنه جاء لاستعادته، بينما الحقيقة أنه إرث بغيض من القهر والتعسف والظلم، فلا يوجد في ليبيا أي أثر تركي سوى مقابر بعض القادة الأتراك المهزومين.. إرث انتهى بترك الليبيين لمصيرهم في معاهدة «أوشي لوزان» لعام 1912، التي بموجبها سلمت تركيا أراضي ليبيا لإيطاليا، لتدخل ليبيا مرحلة أخرى من مراحل الاستعمار البغيض.
مطامع تركيا الطورانية في الموصل العربية العراقية، والاستحواذ على الأراضي العربية، قديمة متجددة، وليس احتلال تركيا للواء الإسكندرون ببعيد. فلواء إسكندرون الأول، الذي يسميه المؤرخ ستيفن لونغريج «الألزاس واللورين السورية»، ويطلق عليه في سوريا اللواء السليب والمحافظة الخامسة عشرة إلى حد الآن، نهبه الأتراك عام 1939. إن المطامع التركية الطورانية في الهيمنة على الأرض والتاريخ والتراث قديمة متجددة، كانت منذ أن سرق جنود السلطان سليم الأول بردة النبي - عليه الصلاة والسلام - ومفتاح الكعبة، وذهبوا بهما إلى خزائن الباب العالي، فالكنوز العربية والإسلامية في المتاحف التركية، جميعها نهبت من بلاد الإسلام مهبط الوحي.