د. ثامر محمود العاني
أكاديمي وباحث عراقي شغل العديد من المناصب الإدارية والأكاديمية، بينها إدارة العلاقات الاقتصادية بجامعة الدول العربية. كما عمل محاضرا في مناهج الاقتصاد القياسي بجامعة بغداد ومعهد البحوث والدراسات العربية. يحلل في كتاباته مستجدات الاقتصاد السياسي الدولي.
TT

رؤية البنك الدولي للإصلاح الاقتصادي في العراق

تناول مرصد الاقتصاد العراقي الصادر عن مجموعة البنك الدولي لمنطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا «التطورات الاقتصادية والسياسية الأخيرة في العراق»، إذ أكد أن العراق يواجه مزيجاً من الصدمات الحادة التي يبدو أنه ليس على استعداد جيد لمواجهتها، فقد أدى انهيار أسعار النفط إلى انخفاض كبير في إيرادات الموازنة واستنزاف الفوائض المالية المتراكمة منذ عام 2018، وجاءت جائحة فيروس (كوفيد - 19) وإجراءات الحجر المنزلي المترافقة بها لاحتواء الوباء لتُلحق ضربة قاسية بالأنشطة الاقتصادية وبخاصة قطاعات الخدمات مثل النقل والتجارة والمصارف والسياحة الدينية. وإلى جانب ذلك، يتواصل الاستياء الشعبي المتزايد حيال سوء تقديم الخدمات، والفساد المتزايد، ونقص الوظائف.
ولعل التحديات التي تواجه الاقتصاد العراقي، تحدّ من قدرته على إدارة وتخفيف الأثر الاجتماعي والاقتصادي، فهناك اعتماد كبير على عائدات النفط يصاحبه عجز كبير في الموازنة، وهذا يقلص من الحيز المالي للعراق الذي يمكّنه من خلاله الاستجابة لجائحة فيروس (كوفيد - 19)، كما يقلل من إمكانية تقديم حزمة حوافز لإعادة تفعيل الاقتصاد.
إن الاقتصاد الذي يفتقر إلى التنوع ويعتمد بشكل كبير على إيرادات النفط، فضلاً عن سيطرة كبيرة للدولة في الأنشطة الاقتصادية والتجارية، يجعل من الصعب عليه خلق وظائف في القطاع الخاص التي يتوجب إيجادها لسكان غالبيتهم من الشباب. وعلاوة على ذلك، فإن الفساد المتفشي وسوء تقديم الخدمات أسهم في تغذية احتجاجات واسعة النطاق في جميع أنحاء البلاد والتي تدعو إلى تحسين تقديم الخدمات العامة وتوفير فرص العمل.
إن الأوضاع الاقتصادية في العراق، التي كانت سلبية أصلاً قبيل صدمة فيروس (كوفيد - 19) أخذت تزداد سوءاً وبشكل ملحوظ منذ ذلك الحين، والتقديرات تؤكد النمو الاقتصادي سيتراجع على المدى القريب نتيجة لانخفاض أسعار النفط، واتفاقية «أوبك+» الجديدة التي خفضت حصص إنتاج النفط، والظروف المحلية والعالمية غير المواتية بما في ذلك الاضطرابات التي ظهرت جراء تفشي فيروس (كوفيد - 19)، ولذلك من المتوقع أن ينكمش الاقتصاد بنسبة 9.7% عام 2020، بانخفاض عن نمو الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي الذي بلغ 4.4% عام 2019.
إن حزمة المحفزات التي تم طرحها منذ أكتوبر (تشرين الأول) 2019، بما في ذلك زيادة التوظيف في القطاع العام، وخفض سن التقاعد، والتحويلات المالية المختلفة –إلى جانب تراجع إيرادات النفط- يُتوقع أن يكون لها تأثيرات مالية ضارة. ففي حالة استقرار أسعار النفط في نطاق الثلاثين دولاراً وعدم اتخاذ أي تدابير إصلاحية، سيتجاوز عجز الموازنة 28% من الناتج المحلي الإجمالي في عام 2020، وستصل احتياجات التمويل الإجمالية إلى 67 مليار دولار (أكثر من 39% من الناتج المحلي الإجمالي).
وفي ظل هذا الوضع، قد لا يكون أمام العراق أي خيار سوى اللجوء إلى مزيج من المصادر المحلية والأجنبية لتمويل العجز. إن الاعتماد الكبير على المصارف المحلية سوف يقلل من السيولة المتاحة لائتمانات القطاع الخاص من ناحية، ومن ناحية أخرى فإن الوصول إلى الأسواق الدولية قد يكون صعباً نظراً لظروف السوق العالمية وضعف إطار الاقتصاد الكلي.
كما أن إغلاق الفجوة من خلال سندات العملة المحلية سوف يضعف الميزانية العمومية للبنك المركزي العراقي مما يولد ضغوطاً على سعر الصرف، ومن ثم تظهر مشكلة التضخم. وقد يؤدي العجز المصاحب في الحساب الجاري، الذي يقدّر بنحو 18.8% من الناتج المحلي الإجمالي في عام 2020، إلى خفض احتياطي العملات الأجنبية في البنك المركزي العراقي إلى أقل من 3 أشهر من الواردات بحلول عام 2022، مما يزيد من صعوبة المواجهة الاقتصادية أمام الصدمات الخارجية، مثل تذبذب أسعار النفط، والديون الخارجية، والتوظيف وإعادة الأعمار وغيرها.
أمام هذه التحديات الاقتصادية، يصبح تنفيذ الإصلاحات في العراق أكثر أهمية لتحقيق النمو وخلق فرص العمل. وفي ضوء ما تقدم، يقترح البنك الدولي وصفة إصلاح اقتصادي شامل تتطلع نحو المستقبل من خلال خلق بيئة مواتية لنمو يقوده القطاع الخاص، والتنويع، وخلق فرص العمل، ويتمحور حول اثنين من مجالات التركيز:
1. معالجة المعوقات الشاملة للتنويع الذي يقوده القطاع الخاص، من خلال: الاستدامة المالية والحوكمة الاقتصادية، وإصلاحات القطاع المالي، وإصلاحات بيئة الأعمال، وتحسين مخرجات رأس المال البشري وإصلاحات نظم الحماية الاجتماعية والعمل، وإضافة التمويل المبتكر.
2. إصلاح الحوكمة وتعزيز مشاركة القطاع الخاص في قطاعات إنتاجية مختارة: إصلاحات الزراعة والصناعات الزراعية، وإصلاحات قطاع الكهرباء وإصلاح قطاع الغاز، مع إضافة إصلاحات الصناعات التحويلية، والصناعات المتوسطة والصغيرة ومتناهية الصغر.
من الضروري أن يلعب القطاع الخاص دوراً بارزاً في عملية التنمية الاقتصادية في العراق، وذلك ضمن الاستراتيجية العامة للدولة، ويمكن إيجاد الصيغ الملائمة للعلاقة بين القطاع العام والقطاع الخاص ضمن مبادرة البنك الدولي، على أن يبقى للقطاع العام الدور القائد في عملية التنمية، وذلك للطبيعة الخاصة للاقتصاد العراقي تاريخياً، مع تنشيط الفعاليات الاقتصادية لمؤسسات المجتمع المدني وإشراكها في عملية التنمية الاقتصادية. إن دور الدولة مهم في الاقتصاد العراقي كما هو الحال في كل الدول النفطية «الريعية» بسبب ملكية الدولة لقطاع النفط الذي يعد مكوناً أساسياً في موارد الدولة العراقية والذي يشكل أكثر من 95% من إيرادات الدولة. وكضرورة لتمويل التنمية في العراق لا بد أن نشجع الاستثمار الأجنبي المباشر على توجيه استثمارات جديدة تتطلب مبالغ كبيرة يعجز عنها القطاع الخاص العراقي وبشروط معينة، كنقل التكنولوجيا، والوصول إلى أسواق التصدير، ونقل أساليب حديثة في الإدارة، وزيادة فرص التشغيل، وتدريب القوى العاملة الوطنية، وتشجيع التنويع الاقتصادي.
وتماشياً مع مبادرة البنك الدولي، ومن أجل إرساء قاعدة لاقتصاد جديد في العراق، لا بد من التحول الرقمي، إذ أصبح من الضروريات بالنسبة لكل المؤسسات والهيئات التي تسعى إلى تطوير وتحسين خدماتها وتسهيل وصولها للمستفيدين، والتحول الرقمي لا يعني فقط تطبيق التكنولوجيا داخل المؤسسة بل هو برنامج شامل كامل يمس المؤسسة ويمس طريقة وأسلوب عملها داخلياً بشكل رئيسي، وخارجياً أيضاً من خلال تقديم الخدمات للجمهور المستهدف لجعل الخدمات تتم بشكل أسهل وأسرع. إن الاحتجاجات والاضطرابات الأخيرة تسلط الضوء على هشاشة الوضع الاقتصادي في العراق، والأولوية العالية التي يجب أن تكرّس لتحسين الفرص الاقتصادية، وبشكل خاص للشباب، وتكمن الاستفادة من الاقتصاد الرقمي على مساعدة العراق في خلق فرص عمل من أجل معالجة بعض مخاوف مواطنيه وكذلك تسريع تحقيق أهدافه التنموية.
إن أهمية وجود اقتصاد رقمي قوي، متعددة، منها بلوغ مرونة أقوى في مواجهة الأوبئة، كما تجلى ذلك فيما يتعلق بفيروس (كوفيد - 19)، حيث يتم استخدام الحلول الرقمية المبتكرة في تعقيم المستشفيات، وتحديد ومراقبة السكان المتضررين، وتقديم فرص التعليم والعمل عن بُعد من بين أمور أخرى لتسهيل تحقيق شروط التباعد الاجتماعي. وهناك عنصر حاسم للاستفادة من هذه التقنيات يتمثل في تمتين أسس الاقتصاد الرقمي الذي يعالج أيضاً الفجوة الرقمية بين أولئك الذين لديهم أجهزة رقمية والإنترنت، وأولئك الذين لا تتوفر لديهم مثل هذه الأجهزة.
تعرّف مجموعة البنك الدولي إطار العمل للاقتصاد الرقمي على أنه يتألف من: (1) البنية التحتية الرقمية، (2) الخدمات المالية الرقمية، (3) المنصات الرقمية، (4) المهارات الرقمية، و(5) ريادة الأعمال الرقمي. وتتمثل مجالات الإصلاح ذات الأولوية في العراق في الحوكمة وتعزيز مشاركة القطاع الخاص في القطاعات الإنتاجية (والتنويع)، وهذا يمكن أن يعزز لاحقاً مشاركة العراق في الاقتصاد الرقمي. وتغطي مجالات الإصلاح ذات الأولوية هذه جميع العناصر الخمسة لإطار الاقتصاد الرقمي، وهي تهدف إلى تعزيز المساءلة والشفافية والثقة.
ويتطلب تحول العراق، وفقاً لمبادرة البنك الدولي، نحو تطوير اقتصاد رقمي يتسم بالمرونة والشمولية، إجراء إصلاحات اقتصادية واعتماد أولويات إنمائية توفر البنية التحتية للاقتصاد الرقمي. إن ذلك سيسهل ضمان الوصول بأسعار معقولة إلى خدمات الإنترنت عالي السرعة، وتحقيق اعتماد واسع النطاق للمدفوعات غير النقدية، وتقديم الخدمات الحكومية الرقمية وتحسين الوصول إلى البيانات، ورفع مستوى مهارات الشباب من ذوي الخبرة التكنولوجية، وتوسيع نطاق النظام البيئي لريادة الأعمال الرقمية. لقد بدت أهمية هذه الإصلاحات وطابعها العاجل جليين خلال الأزمة الصحية العالمية المتواصلة والتي نتجت عن تفشي فيروس (كوفيد - 19).
إن التحول الرقمي الذي تشهده مجتمعاتنا والاقتصاد العالمي، يولّد فرصاً مهمة تفتح المجال للارتقاء بمعايير المستوى المعيشي عبر صنع سياسات تركز على الإنسان وتستند إلى البيانات والأدلة، وعبر التنافسية الاقتصادية المتنامية، وفرص العمل عالية الجودة، وتعزيز الخدمات العامة المقدَّمة بما يلبّي احتياجات المدن كافة على اختلاف أحجامها واحتياجات المجتمعات المحلية في المناطق البعيدة والريفية كذلك، وأخيراً عبر المشاركة المجتمعية الأكثر شمولاً لأشخاص من شتى الخلفيات. وفي ضوء الاهتمام العالمي بالاقتصاد الرقمي، فقد أكد البيان الوزاري لمجموعة العشرين المنعقد في المملكة العربية السعودية في 22 يوليو (تموز) 2020 أهمية بل وضرورة الاهتمام وتطوير فعاليات الاقتصاد الرقمي في جميع الدول وبشكل خاص الدول النامية ومنها العراق، للحاجة الماسة لتسريع عملية التنمية الاقتصادية وسد الفجوة التنموية جراء الظروف العصيبة التي مر بها في العقود الثلاثة الأخيرة.
* مدير إدارة العلاقات الاقتصادية
بجامعة الدول العربية
- أستاذ الاقتصاد القياسي بجامعة بغداد سابقاً