فهد سليمان الشقيران
كاتب وباحث سعودي
TT

مضامين رجعية في التجربة الحداثية

قد تنتهي الأفكار، وإنما تبقى بوصفها تاريخاً، كما في الموجات الفلسفية، والذروات الفكرية، والموضات الأدبية، مذاهب كبرى انتهت واندرست وانقرضت. غير أن الحداثة بقدر ما هي تجربة فهي تحمل معها تاريخها وقصة ارتحالها. لذلك يتناولها الدكتور عبد االله العروي بالتجربة المغربية بوصفها تاريخاً مربوطاً بالثقافة والسياسة والدين والمجتمع والفنون، ولكل تجربة حداثية تعريفها، فبينما يعرّف العروي الحداثة بأنها «الجدة النوعية»، يرى الدكتور عبد الله الغذامي أنها «التجديد الواعي».
والحداثة بقدر وضوحها ومباشرتها - أحياناً - كتجربة تالية على الصدمة مع الآخر، فإنها ملتبسة أيضاً، كما يشرح عز الدين الخطابي الذي يُرجع مفارقة سعة انتشار استعمال المفردة «modernité - حداثة» إلى «حداثة انتشارها، إذ لم تُستخدم حسب مويس باربيي إلا في عام 1823 وكانت تعني ببساطة خاصية ما هو حديث، غير أن هذا النعت ظل عاماً ومجرداً ولم يخرج عن إطار ما هو راهن أو حاليّ». عامل آخر لمفارقة شيوع الاستعمال مع الغموض والالتباس أحياناً: «يتمثل بغياب الكلمة من القواميس الفلسفية، أو حضورها الباهت، علماً بأن مقولة العالم الحديث شكلت موضوعاً فلسفياً بامتياز، من كانط وهيغل وماركس، إلى هايدر وفوكو ودريدا مروراً بنيتشه وفيبر، على سبيل المثال لم يخصص أندريه لالاند لكلمة حديث سوى نصف صفحة». ثم يضيف في صفحة تالية: «لاحظ جورج بلانديي في هذا الصدد أن أغلب الدراسات في مجال العلوم الاجتماعية قد ركزت على موضوعة التحديث أكثر من تركيزها على موضوعة الحداثة». انظر كتابه «أسئلة الحداثة ورهاناتها».
ثم إن اصطدام فلاسفة الحداثة بما بعد الحداثة أيقظ الهمم لاستعادة الحداثة بوصفها تاريخاً وخطاباً، واستفاض هابرماس في نفي اكتمال الحداثة، بوصفها المشروع غير المنجَز، ولذلك فتح المجال لقراءتين؛ أولاهما في المنعطفات الفلسفية للحداثة ممثَّلة بكتابه الكبير «القول الفلسفي للحداثة»، والأخرى في السياسة والأخلاق والهوية والقومية، كما في كتابه «الحداثة وخطابها السياسي». وعلى كلا الجانبين ثمة انتصار لما حملته الحداثة من مضامين تتعلق بالفرد، والمجتمع، والدين، والحياة.
في التجربة العربية سبقنا المغاربة لدراسة إشكالات الحداثة. وأضرب مثلاً بعموم كتب محمد سبيلا حول الحداثة، وهي عديدة، وكتابين مهمين؛ أولهما «القانون بين القبيلة والأمة والدولة» لعالم الاجتماع المغربي نجيب بودربالة، الأكاديمي المرموق وهو ممن أسّسوا في إرساء اللبنات الأولى لسوسيولوجية القانون لمرحلة ما بعد الاستقلال، وهو مع كريكوري لازايف وبول باسكون من رواد البحث في البنيات العقارية، وقد ناقش في كتابه علاقات المجتمع المغربي بأشكال التحديث على مستويات العقد الاجتماعي (السياسي) والقانون الزراعي، وأنظمة السقي، والقانون والمجتمع والشريعة بالمغرب. وثانيهما كتاب «المغرب.. الإسلام والحداثة» لعبد السلام حيمر، وهو عبارة عن دراسات ضمن مجالاتٍ متنوعة، وذات بعد تطبيقي، لذلك اكتسبت أهميتها أكثر من الطرح النظري الذي امتاز به فلاسفة المغرب حول العلاقة المجردة بين الإنسان والحداثة، أو تجارب الحداثات العربية.
في الخليج كانت تجربة الحداثة السعودية في الثمانينات هي الأكثر صخباً، وفي حوارٍ مهم بين الأستاذين القديرين مشاري الذايدي وعلي العميم تطرقا إليها سريعاً، حين سأل الذايدي العميم عن الحداثة أشار وإنْ بطريقة سريعة ضمن وقت البرنامج المتلفز إلى محدودية المحتوى الحداثي بالمعنى الشامل في تجربة الحداثيين السعوديين آنذاك، وللعميم كتاب رصد فيه سجالاتٍ مهمة في السعودية والخليج ومنها ما يتعلق بالحداثة بعنوان: «شيء من النقد، شيء من التاريخ».
من نقص المحتوى الحداثي في تجربة الثمانينات هنا أدخل مع وصفٍ مهمّ ضمن دراسات علي الشدوي للحداثة السعودية، ضمن بحثين مهمين؛ «الحداثة والمجتمع السعودي» وفيه ينتقد إهمال الحداثيين السعوديين لطرح معنى شامل للمفهوم، مقابل البقاء أُسارى لضجيج المناوئين لهم، أو الدفاع الشديد عن نموذجٍ أدبي محدد، وهذا ما جعله يكتب بحثاً آخر بعنوان «التربية على الحداثة أو الحداثة مخرجاً من حكاية الحداثة».
والحداثة لم تسلم من مسّ الصحوة، كما يشير أحد رموزها وهو الدكتور عبد الله الغذامي في «حكاية الحداثة»، رواية تربية أحدهم لحيته لا كتجديدٍ للشكل بل خوفاً من سطوة الصحوة، ومن ثم الارتكاس الكامل والدخول بتجربة رجعية في التحليل والبحث.
تلك التجربة لم يتم نقدها بشكلٍ عميق، إذ لدى الحداثيين تجارب رجعية خطيرة، فالحداثة السعودية لم تتجاوز كثيراً الجوانب الأدبية والأسلوبية، ولذلك انصاع الكثير منهم لسطوة التيار، ومع كل الضجيج والثرثرة والتغطرس والامتلاء المدَّعى لدى بعض رموز الحداثة فإن تجربة الشاعر محمد الثبيتي الحداثية بالشكل والمضمون تتجاوز أهمية الكثير من أثر أبحاثهم الأكاديمية، ومقالاتهم في مجلات الأندية الأدبية وملاحق الصحف، وتجربة الكتّاب والمترجمين والأكاديميين ممن هم خارج هذه التجربة أثّرت أكبر بكثير من قصاصات الحداثة ومعركتها. أضرب مثلاً بحمزة المزيني، وسعد الصويان، وتركي الحمد، كلٌّ في حقله ومجاله أضاف وأغنى.
اليوم ومع تجاوز المجتمعات للحداثة وتاريخها ورموزها بوصفهم باتوا جزءاً من التاريخ بقي عطاء مهم للدكتور عبد الله الغذامي كما في كتابه «العقل المؤمن- العقل الملحد»، وقد تداخل معه الدكتور حمزة المزيني بنقاشٍ مهم يستحق المراجعة والدرس.
لم تقتصر الرجعية في تاريخنا السعودي على التجربة الأصولية فحسب، بل إن موجاتٍ أخرى مثل الحداثة في الثمانينات حملت معها إرثها الارتكاسي، ولذلك يمكن الاستفادة من نقد الآخرين لحداثاتهم.
ولئن فشلت تلك التجربة القديمة، فإن السعودية تشهد اليوم حداثة عميقة وغنية وشاملة على شتى المستويات، وهنا الفرق بين الحداثات القاصرة، والحداثات الأخرى الشاملة. فرق جوهري وكبير.