ستيفن ميهم
TT

«كورونا» يحاصر الجيوب

المصائب لا تأتي فرادى، فكما لو أن حالة الركود العميق ووباء «كورونا» الذي لا تبدو له نهاية واضحة غير كافيين، تقف الولايات المتحدة اليوم في مواجهة أزمة أخرى، نقص العملات المعدنية. بسبب إجراءات الإغلاق، تضاءلت أعداد العملات المعدنية التي يجري التداول فيها في الوقت الحاضر، الأمر الذي يترك المؤسسات التجارية عاجزة عن توفير فكة عندما يقدم لها العملاء أوراقاً نقدية ورقية.
ورغم ذلك، لا يعتبر نقص العملات المعدنية بالأمر الجديد. في الواقع، ظل هذا النقص بمثابة العرف السائد حتى العصر الحديث. ومع سعينا اليوم لمواجهة هذه المشكلة الدائمة، من المهم إمعان النظر في كيف تعامل الناس فيما مضى مع المشكلة ذاتها، والسبل العبقرية التي استخدموها في حلّها.
كانت أوروبا خلال العصور الوسطى قد عانت من نقص دائم في الفكة الصغيرة. ونشأ هذا النقص عن اعتقاد بأن كل قطعة نقد معدنية يجب أن يكون هناك قدر من الذهب أو المعدن مكافئ لقيمتها الرسمية، مهما بلغ صغر حجمها. وبطبيعة الحال، انطوى هذا المنطق على كثير من المشكلات.
كانت المشكلة الأولى أن دور سك العملة الرسمية وجدت عملية إنتاج جميع العملات المعدنية الصغيرة اللازمة لتلبية الطلب، صعبة ومكلفة. في الواقع، كان من الأيسر بكثير تحويل قدر معين من الفضة إلى حفنة من العملات ذات الفئات الكبيرة عن سك عملات صغيرة لا حصر لها.
وتمثلت مشكلة أخرى أكبر في حقيقة أن المعدن الموجود في تلك العملات جعلها عرضة لأن يجري تذويبها، ذلك أنه عندما كانت أسعار المعادن تتجاوز القيمة الاسمية أو الظاهرية للعملات المعدنية، كانت تلك العملات تكتسب قيمة أكبر كمادة خام للسبائك، وليس كعملة نقدية. وبالتالي، كانت تختفي من السوق.
وكان ذلك ما وصفه مؤرخون بـ«مشكلة الفكة الصغيرة الكبرى». الملاحظ أن مخطوطات تنتمي إلى العصور الوسطى تعج بالشكوى والتذمر من النقص المستمر في العملات المعدنية الصغيرة. وفي إنجلترا خلال القرن الـ14 اشتكى المدعون أمام السلطات من «ندرة شديدة في العملات المعدنية» ـ شكوى ترددت أصداؤها في جميع الدول الأوروبية في ذلك الوقت.
نهاية الأمر، نجحت حكومة كل بلد في حل المشكلة، وإن كانت المؤسسات التجارية الخاصة من اتخذ الخطوة المحورية الأولى في هذا الاتجاه. ونظراً لعجز تلك الكيانات التجارية عن سداد المبالغ الصحيحة إلى العاملين لديها، ناهيك عن توفير فكة من أجل العملاء، أصبحت لديها حوافز أكبر عن غالبية قطاعات المجتمع الأخرى لضرورة إيجاد حل للمشكلة المزمنة.
ومثلما أوضح المؤرخ الاقتصادي جورج سيلغين، فإن عدداً من مصنعي الأزرار داخل مدينة برمنغهام الصناعية أخذوا زمام المبادرة على هذا الصعيد، وسكوا عملات نحاسية من فئات صغيرة. ولم يكن النحاس المستخدم في تلك العملات يقترب من القيمة الظاهرية للعملة، وبالتالي لم يكن هناك حافز يذكر لتذويبه.
كما حمل كثير من هذه العملات تصميمات معقدة، ما جعل من الصعب تزييفها. وتجاوزت معظم هذه العملات في مستوى جودتها العملات القليلة من الفئات الصغيرة التي أنتجتها دار سك العملة البريطانية. في الواقع، كانت منشأة سكّ العملة الخاصة التي أدارها رجل الصناعة ماثيو بولتون أكثر دور سك العملة تطوراً على مستوى العالم في ذلك الوقت.
وخلال السنوات الـ10 الأخيرة من القرن الثامن عشر، أنتجت دور سكّ العملة الخاصة داخل برمنغهام 600 طن من العملات النحاسية، التي أغرقت البلاد وأمدّتها بالفكة الصغيرة التي كانت في حاجة ماسة إليها، والتي لم ينتهِ الحال بأي منها إلى تذويبها للحصول على سبيكة.
ورغم إعلان الحكومة البريطانية نهاية الأمر احتكارها لعملية سك العملة وزادت إنتاج العملات المعدنية الصغيرة، ظلت الولايات المتحدة في مرتبة متأخرة عنها. الحقيقة أن دار سك العملة الأميركية ظلت في حالة مثيرة للأسف خلال العقود القليلة الأولى من عمر البلاد، واتسمت بقدرتها المحدودة على توفير العملات من أي فئة.
وبدأت جهات خاصة في تلبية الحاجة وسك عملات من فئات صغيرة تبلغ نصف سنت أو سنتاً يمكن استغلالها كفكة. وقبل الناس بهذه العملات لأن المؤسسات التي أصدرتها تعهدت بمعاودة شرائها. وبالفعل، جرى تداول هذه العملات على نطاق واسع، وعملت بمثابة أدوات إعلانية لصالح المؤسسات التي أصدرتها.
بحلول عقد ثلاثينات القرن التاسع عشر، أصبحت العملات الخاصة شائعة. ومع ذلك، فإنه مثلما أشار المؤرخ جوشوا غرينبرغ، كانت حالة الذعر المروعة التي اشتعلت عام 1873 وما تلاها من ركود ما دفع أعداداً أكبر بكثير من المؤسسات التجارية نحو تجريب سك عملات خاصة من فئات أقل عن دولار واحد. وكانت غالبية تلك العملات مصنوعة من الورق، وليس المعدن. وحملت هذه العملات في طياتها تعهداً بإعادة سداد ثمنها للشخص الذي قبلها للمرة الأولى، لكنها عادة ما احتوت على بند ينص على «أو حاملها». وعليه، كان الشخص الذي يحصل عليها يسعى لبيعها في أسرع وقت ممكن.
وعلى امتداد ربع القرن التالي، نجحت العملات الخاصة في تلبية الطلب على الفكة الصغيرة. إلا أن اشتعال الحرب الأهلية دفع بالمشكلة نحو مستوى أعلى، في ظل اختفاء جميع العملات المعدنية التي تصدرها الحكومة من التداول.
وبسبب عجزها عن صنع الفكة أو سداد المال المستحق لعمالها، أصدرت مؤسسات تجارية خاصة مجموعة من الأوراق النقدية والقطع الورقية والنحاسية والبدائل الأخرى للعملات. وتبعاً لأحد التقديرات، أصدرت مؤسسات خاصة 25 مليون «عملة معدنية» على الأقل لحل مشكلة نقص الفكة الصغيرة. ومثلما كان الحال من قبل، أسهمت هذه العملات في الدعاية للمؤسسات المصدرة لها.
علاوة على ذلك، ابتكر بعض أصحاب الأعمال بدائل أكثر عبقرية. على سبيل المثال، كان رجل أعمال يدعى جون غولت أول من أدرك إمكانية استغلال الطوابع البريدية كفكة صغيرة بشرط حمايتها من التمزق والاهتراء. وسرعان ما نال براءة اختراع لحامل ختم نحاسي بغطاء شفاف يمكن استخدامه في تحويل طابع بسنت واحد إلى فلس.
وحرصت الشركات التي اشترت الجهاز الذي ابتكره غولت على طباعة إعلان عن نفسها على الطوابع. وفي غضون عام واحد فقط، باع غولت ما يقرب من مليون من «عملاته» الفارغة. واكتسبت هذه العملات شعبية بالغة لدرجة جعلت الشمال الأميركي يواجه نقصاً في الطوابع البريدية.
وفي نهاية الأمر، أثارت الشعبية الضخمة لهذه العملات الخاصة غضب الكونغرس. وبالفعل، مرّر الكونغرس خلال عامي 1862 و1864 قانونين وضعا نهاية النسخ الخاصة من الفكة الصغيرة. وبحلول ذلك الوقت، كان مكتب النقش والطباعة التابع للحكومة قد شرع بالفعل في إصدار أوراق نقدية رسمية تحظى بموافقة الدولة بفئات صغيرة من عينة 3 و5 سنتات.
وبعد نهاية الحرب، زادت دار سك العملات إنتاجها للفكة الصغيرة بدرجة كبيرة. وسارت حكومات أخرى على النهج ذاته تقريباً على مدار القرن التاسع عشر، وحرصت على إنتاج عملات نقدية صغيرة لا تحمل قيمة معدنية تذكر. وفي خضم ذلك، أصبحت مشكلة الفكة الصغيرة في حكم الماضي.
ورغم أن صور العملات الخاصة التي تقل قيمتها عن دولار واحد اختفت في الجزء الأكبر منها، فإنها لم تمت تماماً. في الواقع، أقرّت المحاكم بين الحين والآخر استثناءات للقوانين الصادرة في ستينات القرن التاسع عشر، وسمحت بتداول بعض العملاء على المستوى المحلي. ومن بين ذلك ما أطلق عليه «أوراق اعتماد الشركات» التي كانت تصدر داخل مدن تهيمن عليها شركة واحدة. وفي وقت أحدث، سمحت بعملات تصدر داخل جيوب ليبرالية، مثل «بيركشايرز» التي يجري تداولها داخل ماساتشوستس.
وحال استمرار نقص العملات المعدنية الحالي لفترة أطول بكثير، فإن المؤسسات التجارية التي تناضل من أجل جني المال في تلك الفترات العصيبة، ربما تتحول بأنظارها إلى الماضي لاستخلاص دروس مستفادة منه والاستعانة بأدواته.
- بالاتفاق مع «بلومبرغ»