د. عمرو الشوبكي
TT

كان حزباً مقاوماً؟!

أعاد حكم المحكمة الدولية بإدانة أحد عناصر «حزب الله» (سليم عياش) وتبرئة ثلاثة آخرين لعدم كفاية الأدلة، فتح ملف النقاش حول تحولات «حزب الله».
واتضح من أداء المحكمة الدولية وحكمها أنها محكمة مهنية وتقنية، بعيدة عن السياسة وتحزباتها، فبرَّأت متهمين لعدم وجود أدلة إدانة قطعية (رغم وجود مؤشرات وأدلة ظنية راجحة بإدانتهم). وهي كلها معانٍ لا يعرفها «حزب الله» الذي اعتبر منذ اللحظة الأولى أن المحكمة مسيَّسة، وأكد أنه لن يسلِّم أي عنصر من عناصره للعدالة.
واللافت أنه مع كل أزمة يظهر في خلفيتها «حزب الله»، ينبري البعض ليردد المقولة الشهيرة: «لا تمسوا (حزب الله) لأنه مقاوم لإسرائيل». وبعيداً عن الدوافع السياسية لهذه الرؤية، فإنها تعكس أزمة أكثر عمقاً في تعريف معنى المقاومة في بلد مثل لبنان، نجح في تحرير أرضه المحتلة في عام 2000 بدور بارز لـ«حزب الله» والجيش اللبناني وقوى مقاومة مدنية أخرى، بعدها انتقل «حزب الله» من مرحلة «المقاومة الوطنية» إلى «المقاومة الآيديولوجية»، ومنها استقر إلى مرحلة الاستبداد باسم المقاومة، أو «توظيف المقاومة».
انتقل مشروع المقاومة اللبنانية من «مقاومة وطنية» لدولة احتلال إلى «مقاومة آيديولوجية تحكمها مبررات دينية أو عقائدية أو حسابات إقليمية وسياسية. وهذا النوع من تجارب المقاومة يكون – غالباً - مصيره الفشل، حتى لو رفع لواءها قديس مثل جيفارا؛ حين حارب في بلد غير بلده دفاعاً عن قناعته الثورية والاشتراكية.
والحقيقة أن بداية التحول في تجربة «حزب الله» كانت في الانتقال من التوافق حول المقاومة الوطنية إلى الخلاف حول المقاومة الآيديولوجية، والذي ظهر بشكل جلي عقب دخول «حزب الله» في معركة عسكرية ضد إسرائيل في 2006، انتهت بتدمير أجزاء كبيرة من الضاحية الجنوبية، ومن مربعاته الأمنية، وسقوط آلاف القتلى والجرحى، ودخول قوات «اليونيفيل» للجنوب اللبناني، وضبط حدوده مع إسرائيل.
والحقيقة أن معركة 2006 مثَّلت نقطة فاصلة في مسار «حزب الله»، فقد اكتشف أن الدخول في حرب مع إسرائيل لدوافع آيديولوجية أو سياسية أو إيرانية سيضر بالحزب وبأنصاره أكبر ضرر؛ خصوصاً أن المعركة مع إسرائيل لن تكون نزهة، وكان لها ثمن باهظ، ورفضها كثير من شركاء الوطن.
والحقيقة أن المقاومة الآيديولوجية تمثل في تاريخ الشعوب مخاطرة كبرى؛ لأنها تتجاهل موازين القوى نتيجة «العمى الآيديولوجي» الذي يتصور من يتبنونها أنه يمكن فقط أو أساساً بقوة العقيدة هزيمة الأعداء، ويتجاهلون الأشكال المدنية والسياسية والشعبية للمقاومة، لصالح نموذج المقاومة المسلحة الذي بلا شك هو خيار مشروع وناجع في حال وقوع بلادك تحت احتلال أجنبي، كما دلت عليه تجارب «المقاومة الوطنية».
والمؤكد أن تعثر تجارب المقاومة الآيديولوجية في العالم العربي تكرر في مناطق كثيرة من العالم، وحين تكون الدوافع لا علاقة لها مباشرة باحتلال أرض بلادك، فهنا يتم استدعاء دوافع دينية أو عقائدية أو مذهبية أو سياسية، وكلها لا تنتج انتصاراً؛ إنما أزمات عميقة ومستمرة. فهناك فارق كبير بين المقاومة الآيديولوجية المسلحة التي يروّج لها تنظيم مسلح ويقول إنها لصالح شعب مضطهد، وبين التضامن مع هذا الشعب. ويقيناً فإن قضية الشعب الفلسطيني العادلة، وحقه في بناء دولته المستقلة، يستلزمان مقاومة وطنية فلسطينية، وتضامناً عربياً قانونياً وسياسياً.
والمؤكد أن تجارب المقاومة الآيديولوجية لم تقضِ على احتلال، ولم تحرر القدس؛ بل وظفّها المحتل لصالح مزيد من الصلف والعدوان. أما الحالة الثانية التي قادتها مصر والدول العربية في حرب وطنية وقومية في 1973 وبفضلها تحررت سيناء، وحتى عودة السلطة الفلسطينية إلى غزة والضفة، جاءت بعد مقاومة شعبية ومدنية عظيمة، أسفرت عن اتفاق أوسلو، بصرف النظر عن فشل المسار السياسي حالياً لأسباب لا مجال لمناقشتها الآن.
تجربة «حزب الله» تشبه تجارب كثير من التنظيمات والنظم والجماعات التي تبنت رؤى ثورية أو مقاومة في بعض مراحلها، ثم انتقلت بعد أن ذاقت طعم السلطة والنفوذ إلى القيام بممارسات عكس ما كانت تدعو إليه في السابق، وتحول حديثها عن النضال والمقاومة إلى مجرد ورقة للتوظيف السياسي، وقمع الخصوم، والسيطرة على مقدرات البلاد والعباد.
والمؤكد أن فشل معركة «حزب الله» في 2006، وفرض المجتمع الدولي قواعد صارمة على تحركاته في الجنوب، جعلاه ينتقل من مرحلة «المقاومة الآيديولوجية» إلى مرحلة توظيف ورقة المقاومة أو شعاراتها لصالح مكاسب سياسية وحزبية في الداخل، وتمدد مذهبي في الخارج.
والحقيقة: لا تختلف ورقة المقاومة أو الممانعة التي يرفعها «حزب الله» عن شعارات رفعها صدام حسين ضد إسرائيل، ولكنه عملياً قام بغزو الكويت، أو بشار الأسد الذي لم يدخل في مواجهة حقيقية مع إسرائيل، واكتفى بشعارات الممانعة، ومشاركة الـ«دواعش» في تدمير المدن السورية، وقتل وتشريد مئات الآلاف من أبناء الشعب السوري.
صحيح أن بقية البلاد العربية مثل مصر والأردن لا تواجه إسرائيل، وليس فقط «حزب الله»، إنما ذلك يحدث وفق اتفاقية سلام التزما بها في السر والعلن، حتى لو اختلف معهما البعض، ولم يدَّعِ أحد أنه يقاوم ويمانع، في حين أن موقفه الحقيقي هو توظيف المقاومة لأغراض سياسية وتسلطية ومذهبية، يحارب في سوريا والعراق ولم ولن يحارب مرة أخرى إسرائيل، حتى لو اضطر إلى الدخول في مناوشات شكلية هنا أو هناك، ولو حدثت مواجهة فستكون لصالح إيران وليس فلسطين.
فتح الانفجار المدوي الذي شهدته بيروت تساؤلات كثيرة عن صيغة الحكم في لبنان ودور «حزب الله»، ومستقبل مشروع توظيف المقاومة؛ خصوصاً أن الحزب يسيطر على الحدود البرية والجوية والبحرية، وأصبح دولة فوق الدولة.
مع فشل صيغة المقاومة الآيديولوجية، وانتقال «حزب الله» إلى صيغة توظيف المقاومة، معتمداً على قدراته العسكرية في إسكات كل الأصوات المعارضة له، سواء من بين أنصاره وطائفته أو بين خصومه، ومع تفجير بيروت المدوي والمؤلم، وقبله الدور السلطوي الذي لعبه الحزب في قمع الحراك الشعبي، أصبح من المهم إنهاء ورقة توظيف المقاومة، من دون تفجير السلم الأهلي في لبنان (وهو موضوع آخر شائك).
يحتاج الجميع وعلى رأسهم «حزب الله» مناقشة الأسئلة الحقيقية المتعلقة بمخاوف كثير من شيعة لبنان، وليس توظيف ورقة المقاومة لأغراض سياسية وحزبية ومذهبية، وأهمها تهديد «داعش» الوجودي لهم، ووجود خطاب إقصائي طائفي لدى كثير من التيارات السنية المتشددة، وسيطرة الحزب على القرار السياسي والعسكري بالقوة الجبرية، والاستمرار في ابتزاز الدولة وبقية مكونات الشعب اللبناني تحت ادعاء المقاومة.
الأسئلة الحقيقية تفيد الجميع، وتنقل مخاوف اللبنانيين من كل الطوائف إلى حوار حقيقي برعاية دولية وعربية ضرورية.