زهير الحارثي
كاتب وبرلماني سعودي. كان عضواً في مجلس الشورى السعودي، وكان رئيساً للجنة الشؤون الخارجية، وقبلها كان عضواً في مجلس «هيئة حقوق الإنسان السعودية» والناطق الرسمي باسمها. حاصل على درجة الدكتوراه في فلسفة القانون من جامعة كِنت - كانتربري في بريطانيا. وهو حالياً عضو في مجلس أمناء «مركز الملك عبد العزيز للحوار الوطني». عمل في النيابة العامة السعودية إلى أن أصبح رئيساً لدائرة تحقيق وادعاء عام. مارس الكتابة الصحافية منذ نحو 3 عقود.
TT

التدخل الإيجابي لا يعني التورط في التجاذبات

عندما تولى الملك سلمان مقاليد الحكم، استقبلت السعودية وقتها كثيراً من الزعماء والرؤساء من كل حدب وصوب في العالم. كان قصر الملك في عرقة بالرياض مقصد الزيارات، وقبلة الحوارات، ولا يكاد يمر أسبوع في تلك الفترة من دون استقبال رئيس دولة - أو أكثر - ضيفاً على الملك. ومن ثم انتقلت الاستقبالات ومآدب الغداء لضيوف الملك إلى الديوان الملكي، واستمرت من يومها على هذا المنوال.
أعقب تلك الفترة انعقاد قمم تاريخية وغير مسبوقة استضافتها الرياض، حضرها عشرات من الرؤساء والقيادات في العالم، وأثارت جدلاً واهتماماً عالمياً بقراراتها. لم يكن أولئك الزعماء مضطرين لزيارة المملكة أو مجاملتها، لولا قناعتهم ومعرفتهم بحجم تأثيرها، وأهمية الدور الذي تلعبه سياسياً واقتصادياً.
العهد السعودي الجديد كان محطَ أنظار العالم، وزخم الحراك الدبلوماسي كان لافتاً، وصفتُه حينها بأنَّه ملمحٌ جديدٌ للسياسة الخارجية السعودية في عهد الملك سلمان، ورسالة لتعزيز دورها الإقليمي والدولي وموقعيتها كمرجع للقرار العربي.
لم يُعرف عن السعوديين ميلهم للدعاية الإعلامية، ولا يوجد في قاموسهم السياسي أو العسكري لغة عنترية أو نيات توسعية أو مطامع إقليمية، ولذا فتعاطيهم مع الملفات الملتهبة تجده ضد التأزيم، ولا يميل إلى أساليب التصعيد والمواجهة.
من حضر تلك اللقاءات والمناسبات والزيارات، شعر عن قرب بحجم الاحترام والتقدير والامتنان للملك سلمان، ولولي عهده الأمير محمد بن سلمان، عراب السعودية الجديدة، من قبل تلك الزعامات والقيادات التي زارت المملكة. الرئيس ترمب - على سبيل المثال - الذي زار السعودية كأول دولة يزورها بعد توليه منصب الرئاسة، وصف زيارته بالتاريخية والعظيمة التي لا ينساها ولا تغادر مخيلته.
تلك السنة الأولى، كما أتذكر، لم تنقضِ إلا ومعظم رؤساء الدول الأفريقية قد زاروا المملكة والتقوا بقيادتها. مسألة الالتفات إلى أفريقيا آنذاك نوردها هنا كمثال على عقلانية الدبلوماسية السعودية، ومدى استجابتها للتحولات، بدليل استشعارها أن قلة الاهتمام ببعض دول هذه القارة قد سمح بتمدد مشروعات إقليمية، ما كان لها الوجود لولا غياب التواصل مع تلك الدول.
المقام هنا ليس للإطراء؛ بل قراءة سردية واقعية للسياسة السعودية. مواقف السعودية الأخيرة ليست جديدة، ولكنها تأتي وفق هذا السياق التراكمي وتكريساً لنهجها. فموقفها المعلن والشجاع مما حدث أخيراً في لبنان يدعو للتقدير والاحترام، للمكاشفة اللافتة، فوضعت النقاط على الحروف لأجل الشعب اللبناني.
وقبل أيام استضافت الرياض ورأست النسخة الثامنة لمؤتمر أصدقاء السودان، وهي التي ساهمت في رفع اسمه من لائحة الإرهاب، مؤكدة دعمها لإنجاح المرحلة الانتقالية وتحقيق تطلعات شعبه.
لا يمكن لنا أيضاً تجاهل مناخ التفاؤل الذي يطل بشعاعه على العلاقات السعودية العراقية، ودعم السعودية للسيد الكاظمي في مشروعه العروبي والسيادي.
كانت لافتة أيضاً زيارات وزير الخارجية السعودي للدول العربية في شمال أفريقيا، وكذلك فرنسا وإيطاليا، فأهمية جولته تكمن في مغزى التوقيت ومضمون الرسالة، ما يعني الدفع باتجاه تعزيز الحل السلمي للملف الليبي، وقطع الطريق على المطامع التركية المكشوفة.
القراءة الموضوعية للسياسة السعودية الراهنة أنها تنزع في مساهماتها وتدخلاتها إلى الجانب الإيجابي لا السلبي. دبلوماسية التدخل الإيجابي شيء والتورط في التجاذبات الدولية ومستنقع المحاور شيء آخر. النموذج المضيء الذي تجسده الدبلوماسية السعودية اليوم كرسته منذ عقود؛ كونها ترتكز على محددات للسياسة الخارجية، وهي ثابتة منذ عهد الملك المؤسس - رحمه الله - غير أن الجديد فيها من حيث التعاطي والتكتيك والأسلوب في عهد الملك سلمان، هو تسمية الأشياء بأسمائها، ما يعني الوضوح والمكاشفة والمباشرة، ووضع إصبعها على الخلل في علاقاتها الدولية، من دون أن يعني ذلك القطيعة والخلاف والعداوة مع هذه الدولة أو تلك.
السعودية حين تتعامل مع أزمات الدول كانت وما زالت تقف دائماً مع الشرعية وخيارات الشعوب، في حين أن دولاً إقليمية - كإيران مثلاً - تتدخل أيضاً في تلك الدول، ولكنها تقف مع أطراف موالية لها ومحسوبة عليها، لخدمة مصالحها ومشروعها وأجندتها، وهنا يكمن الفارق ما بين المساهمة الإيجابية والتدخل السلبي المعيق للأمن والاستقرار والتنمية.
الحضور السعودي البارز بمقوماته يدفع باتجاه ملء الفراغ، في ظل نظام عربي إقليمي مهترئ، يواجه تحديات غير مسبوقة. تشكل الواقع الإقليمي الجديد دفع السعودية للاستجابة نحو الدينامية الدائبة لوجود ضرورة حتمية للقيام بذلك، في ظل الإفرازات السلبية للأحداث. في حين أن توسيع آفاق التعاون السياسي والاقتصادي مع دول العالم، وربط صداقات مع الجميع، بات من صميم فكرها السياسي، فضلاً عن عضويتها في مجموعة العشرين، ما يعكس اعترافاً بدورها في وضع سياسيات اقتصادية مؤثرة.
في خضم السيولة السياسية التي تعيشها المنطقة، لا تتردد الدبلوماسية السعودية في التدخل باللحظات الحاسمة، لتنقية الأجواء واحتواء الأزمات وبلورة تفاهمات مع كافة الأطراف، من أجل استقرار الإقليم، ودعم القضايا العربية، وتعزيز الأمن والسلم الدوليين، ولذا حراكها السياسي مستدام؛ وليس بالضرورة أن يكون معلناً؛ لأن العبرة لديها بتحقيق الغايات، بمعنى حلحلة الملفات المطروحة باتجاه الانفراج السياسي.