جيمس غيبني
TT

التعذيب لدى «سي آي إيه» جعل أميركا اللاتينية مفتوحة للصين

إذا كنت تريد أن ترى كيف أدى استخدام التعذيب إلى تقويض نفوذ الولايات المتحدة الأميركية وسلطانها فانظر إلى أميركا اللاتينية؛ فمواطنو هذه القارة، من سان سلفادور وحتى سانتياغو، على دراية كاملة وواسعة بأساليب الاستجواب التي تنتهجها الاستخبارات المركزية الأميركية (سي آي إيه). وما زال البعض منهم يعاني من بعض الآثار النفسية والجسدية التي تثبت التعرض لتلك الأساليب.
هذا الأسبوع، مثلا، أصدرت اللجنة الوطنية للحقيقة في البرازيل تقريرها الذي طال انتظاره عن انتهاكات حقوق الإنسان التي ارتكبت خلال عهد الديكتاتورية العسكرية في البرازيل في الفترة من عام 1964 إلى 1985. كانت بعض أساليب التعذيب التي التي استخدمت آنذاك قد استوردها 300 من أفراد الجيش البرازيلي الذين درسوا في «مدرسة الأميركتين» سيئة السمعة في منطقة قناة بنما التي تسيطر عليها الولايات المتحدة الأميركية. وكان من بين ضحاياها المباشرين وغير المباشرين الرئيسة ديلما روسيف، التي تعرضت للاعتقال والتعذيب خلال تلك السنوات. وبكت عند قبولها تقرير اللجنة وحكت عن تجربتها في هذا الخصوص.
خلال المراحل الأخيرة من الحرب الباردة تحولت أميركا الوسطى إلى مختبر حقيقي لأساليب التعذيب الأميركية. وفي عام 1988، تحدث أحد أفراد فرق الإعدام بالجيش الهندوراسي لصحيفة «نيويورك تايمز» عن تفاصيل التدريبات التي تلقاها في ولاية تكساس على يد الجيش الأميركي والاستخبارات المركزية: «علمونا الأساليب النفسية: دراسة مخاوف ونقاط ضعف السجين، وإجباره على الوقوف وعدم السماح له بالنوم، وإجباره على أن يظل عاريا ووضعه في حجز انفرادي، ووضع الفئران والصراصير في زنزانته، وإعطاءه طعاما رديئا، وتقديم حيوانات ميتة له، وإلقاء الماء البارد عليه، وتغيير درجات الحرارة».
في الواقع، وحسبما أوضح تقرير لجنة الاستخبارات في مجلس الشيوخ بشأن التعذيب، هناك رابط مباشر بين ما حدث في أميركا الوسطى ووسائل التعذيب الأميركية التي تمت في عهد إدارة جورج بوش الابن؛ فلقد أصبح أحد الضباط، والذي تعرض لتوبيخ من المفتش العام بالاستخبارات المركزية الأميركية بسبب أساليب الاستجواب التي انتهجها في أميركا اللاتينية خلال ثمانينات القرن الماضي، رئيسا لعمليات استجواب مجموعة التسليم السري التابعة للاستخبارات المركزية في عام 2002.
هناك رابط تاريخي آخر جدير بالذكر. وفقا لتقرير للكونغرس عن «مدرسة الأميركتين»، كانت الكتيبات الإرشادية التي كانت توزعها على الطلاب المتحدرين من 10 دول من أميركا اللاتينية تشتمل على مادة عن «استخدام مصل الحقيقة أثناء الاستجواب، واختطاف أفراد من أسرة الخصم للضغط عليه، وإعطاء الأولوية لاختطاف الشخصيات المعارضة، والنفي والاعتداء البدني وعمليات الإعدام». وعندما اكتشف الأمر وزير الدفاع آنذاك ريتشارد تشيني، في عام 1991، أمر بإلغاء الكتيبات وإلغاء «المواد التي تعتبر متعارضة مع السياسات الأميركية وسياسات وزارة الدفاع»، وفقا لتقرير نشر في عام 1997.
بالنسبة لكثير من هذه الدول، حسبما يقول فوكنر، فإن «الماضي لا يموت أبدا ولا يدفن تحت الثرى، بل إنه لا يكون ماضيا أبدا». خلال هذا الأسبوع، على سبيل المثال، تنظر المحكمة الدستورية في غواتيمالا قضية ارتكاب إبادة جماعية ضد الديكتاتور السابق إيفرين ريوس مونت، الذي أشاد به ذات مرة الرئيس الأميركي الراحل رونالد ريغان ووصفه بـ«الرجل الذي يتمتع بالنزاهة والشخصية العظيمة.. المخلص تماما للديمقراطية». وما زالت كل من تشيلي والأرجنتين تهابان الإرث الوحشي الخاص بتدخل الولايات المتحدة ودعمها للأنظمة القمعية التي عذبت أو قتلت أو «خبأت» الآلاف من مواطنيها.
يساعد الكشف عن جزء من هذا الماضي المسموم على تفسير لماذا يعتبر، بالنسبة لكثير من دول أميركا اللاتينية، نشر تقرير التعذيب الخاص بمجلس الشيوخ حكاية قديمة. عليك أن تحكي لهم، بدلا من ذلك، شيئا لا يعرفونه، أو شيئا لا يعتقدون أنه سيحدث مرة أخرى.
يساعد سجل التعذيب الحافل للولايات المتحدة، بالإضافة إلى تاريخها الطويل في الاستغلال الاقتصادي، على تفسير شكوك دول أميركا اللاتينية تجاه السياسة الأميركية بشكل عام. وأشارت دراسة صدرت مؤخرا عن مركز «بيو» للدراسات حول الرأي العام العالمي عن التنصت والطائرات الأميركية من دون طيار، إلى أن خمسا من أصل عشر دول معادية للسياسات الأميركية موجودة في أميركا اللاتينية. وفي ظل هذه الظروف، ربما يمكن مسامحة إدارة أوباما على عدم رغبتها في أن تكون حاملة لواء الديمقراطية في المنطقة. حتى لو كان فرض عقوبات محددة على دول مثل فنزويلا بسبب انتهاكات حقوق الإنسان هو الشيء الصحيح الذي ينبغي القيام به، فلن تجتاز مثل هذه الإجراءات اختبار الشرعية الأخلاقية المثير للضحك.
إن تآكل مكانة الولايات المتحدة له عواقب أبعد من مجرد كراهية جيرانها لها. لك أن تنظر إلى التنافس على السلطة والنفوذ مع الصين؛ فلا يزال لدى الولايات المتحدة مؤيدون أكثر من مؤيدي الصين في أميركا اللاتينية، ولكن ليس كثيرا جدا. وعلاوة على ذلك فإن أكثر من نصف الذين استطلعت آراؤهم من أميركا اللاتينية في دراسة مركز بيو للدراسات يقولون إن الصين حلت محل، أو ستحل محل، الولايات المتحدة كقوة عظمى رائدة في العالم. وتعتمد دول أميركا اللاتينية أكثر وأكثر على التجارة والاستثمار الصينيين. وقام خصوم إقليميون للولايات المتحدة على وجه الخصوص مثل فنزويلا باجتذاب مساعدات اقتصادية صينية.
ويبدو أن دول أميركا اللاتينية على استعداد بشكل ملحوظ لتجاهل الغرائز القمعية الصينية. في نيكاراغوا، على سبيل المثال، استغل الرئيس دانييل أورتيغا والساندينيون الذكريات المريرة للتدخل والانتهاكات الأميركية التي ارتكبت في عهد الرئيس ريغان، ويسعى مستثمرون صينيون للحصول على مشروع يجعل جيمس مونرو وتيودور روزفلت يشعران بالصدمة وهما في قبريهما: مشروع قيمته 40 مليار دولار لإقامة ميناءين في المياه العميقة وسكك حديدية وقناة جديدة عبر برزخ أميركا الوسطى.. وكما قال الرئيس ريغان ذات مرة أيام الكونتراس: «إنها لا تبعد سوى يومين بالسيارة عن هارلنغن في تكساس».

* بالاتفاق مع بلومبيرغ