روبرت كابلان
كاتب من خدمة «نيويورك تايمز»
TT

التنافس بين القوى العظمى كان دوماً نشاطاً إمبريالياً

صرح وزير الخارجية الأميركي، مايك بومبيو، الخميس، بأن الهدف الذي يسعى خلفه جيش التحرير الشعبي الصيني ليس حماية أراضي البلاد، وإنما «توسيع أرجاء امبراطورية صينية». وفي وقت سابق من الشهر، وجه بومبيو تحذيراً إلى الصين بألا تتعامل مع بحر الصين الجنوبي باعتباره «إمبراطوريتها البحرية».
في واقع الأمر، يبدو بومبيو متأخراً كثيراً في إدراكه لحقائق الأمور، فالصين بصورة أو بأخرى إمبراطورية بالفعل منذ آلاف السنين. ولا يعتبر وضعها الإمبراطوري الراهن نتاجاً لتحركاتها داخل بحر الصين الجنوبي.
الحقيقة أن التنافس بين القوى العظمى كان دوماً نشاطاً إمبريالياً. ولا ينبغي للمرء أن يسمح للهواجس بأن تنتابه، مثلما الحال مع بومبيو، إزاء فكرة كون الصين إمبراطورية، وإنما المسألة الحقيقية هنا: أي نمط من الإمبراطوريات تشكل الصين؟
بمعنى هل هي إمبراطورية برية أم بحرية؟ هل هي إمبراطورية تبشيرية، مثل الولايات المتحدة، تسعى لفرض قيمها أو شيء آخر؟ وبطبيعة الحال، تؤدي كل واحدة من التصنيفات إلى نتائج مختلفة في خضم صراع قوى عظمى في مواجهة الصين. وتحمل الاختلافات القائمة بين هذه التصنيفات أهمية كبيرة، تماماً مثلما كانت الحال منذ قرون وألفية ماضية.
ويكشف التاريخ أن الإمبراطوريات البرية، مثل تلك المرتبطة بالمغول وروسيا تحت حكم القياصر، كانت تميل للشعور بعدم الأمان والعدوانية، والتأكيد على القوة الخشنة. ويعود ذلك إلى أن الحدود البرية من السهل انتهاكها، الأمر الذي يخلق داخل القوة الإمبراطورية شعوراً مزمناً بعدم الأمان.
في المقابل، نجد أن الإمبراطوريات البحرية مثل فينيسيا وبريطانيا والولايات المتحدة منذ غزوها الفلبين عام 1898، مالت بوجه عام نحو التأكيد على التجارة. وبالتالي، كانت هذه الإمبراطوريات أكثر لطفاً، لأن البحار والمحيطات توفر لها حماية طبيعية، حتى رغم انفتاح الموانئ أمام التأثيرات الكوزموبوليتانية.
وتمثل الصين في القرن الحادي والعشرين تحدياً فريداً من نوعه، الأمر الذي يعود بصورة أساسية لكونها إمبراطورية برية وبحرية في آن واحد، وذلك بفضل امتلاكها سواحل بحرية بطول 9.000 ميل على طول بعض أكثر الخطوط البحرية حيوية على مستوى العالم، بجانب وضعها القاري داخل منطقة أوراسيا بينما يقع على حدودها خصوم تاريخيون مثل الهند وروسيا.
الحقيقة أن السبيل المثلى لفهم «مبادرة الحزام والطريق» الصينية تكمن في النظر إليها كمشروع إمبريالي. عبر البر والطرق والسكك الحديدية وخطوط الأنابيب، تسعى الصين لربط آسيا الوسطى بإيران، حيث سيجري تمديد خطوط فرعية إلى أوروبا والشرق الأوسط. وعبر البحر، عمدت الصين إلى بناء والمعاونة في تمويل موانئ على أحدث طرز تتميز بتطبيقات تجارية وعسكرية، من منطقة بحر الصين الجنوبي عبر المحيط الهندي، وصولاً إلى البحر الأحمر وشرق البحر المتوسط. أما تأكيد البعض أن عدداً من هذه الموانئ والمشروعات المرتبطة بها لا يحمل أهمية تذكر من المنظور الاقتصادي، فإنه يتجاهل الأهمية الجيوسياسية لها، وبالتالي الإمبريالية والتجارية، ذلك أنه أينما تبحر سفن الحاويات، تلحق بها البوارج الحربية.
وبالنظر إلى هذه الطبيعة المزدوجة، ستصبح الصين عدوانية وكوزموبوليتانية في آن واحد. ومن أجل ذلك، تعمد إلى قمع مواطنيها من أمثال الأويغور المسلمين، الذين يقفون في طريق «الحزام والطريق» على الأرض، في الوقت الذي تشحن فيه أجهزة استهلاكية إلى أفريقيا وما وراءها من خلال أسطولها التجاري، وتحرص كذلك على الترويج لمنتجات حيوية للاقتصاد العالمي، مثل شبكة الجيل الخامس التي تنفذها شركة «هواوي تكنولوجي كو».
وفي الوقت الذي لطالما كانت الولايات المتحدة، من الناحية التاريخية، قوة تبشيرية حول العالم، وتعمد إلى نشر قيم الديمقراطية وحقوق الإنسان، لا تبدي الصين مثل هذه الدوافع. وتتعاون الصين مع أنظمة أخرى بغض النظر عن القيم التي تنتهجها، أو كانت استبدادية أم لا - سواء الرئيس الروسي فلاديمير بوتين أو المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل، لا يهم. وعليه، فإنه في الوقت الذي تسعى فيه الصين لإسقاط الهيكل الهرمي الحالي للقوى العالمية الذي تهيمن عليه الولايات المتحدة، فإنها في الوقت ذاته قوى إمبريالية متصالحة مع الوضع القائم.
وعلى خلاف الحال مع الولايات المتحدة، التي كثيراً ما سعت لتغيير الهياكل الداخلية ومنظومات القيم داخل الدول التي تصنفها استبدادية، لم تسعَ الصين من جانبها نحو إحداث أي تغييرات في الترتيبات الداخلية للدول الفردية.
جدير بالذكر أن الصين شاركت في مشروعات لتنمية موانئ في ميانمار وباكستان، وكذلك مع اليونان وإيطاليا الديمقراطيتين. أما التحالف الصيني مع روسيا فربما تكون علاقته أكبر بالاعتبارات الجيوسياسية للغاز الطبيعي عن حقيقة أن البلدين اليوم يمثلان أنظمة ديكتاتورية.
وعلى صعيد متصل، جرى النظر إلى اتفاق الشراكة الاستراتيجية والاقتصادية لمدة 25 عاماً بين الصين وإيران، الذي ربما تقدر قيمته بمئات المليارات من الدولارات، باعتباره تحالفاً بين قوتين استبداديتين. ومع ذلك، ينصب الاهتمام الصيني بصورة أساسية على الموقع المتميز لإيران بين الشرق الأوسط وآسيا الوسطى، ووفرة مواردها من النفط والغاز الطبيعي وسكانها المتعلمين البالغ تعدادهم 83 مليون نسمة ويشكلون مستهلكين محتملين. وحال وقوع ثورة مضادة داخل إيران واتباعها نهجاً أكثر ليبرالية، ستظل الصين على اهتمامها بعلاقتها الاستراتيجية معها.
على الصعيد الداخلي، تتبع الصين نهجاً غير أخلاقي، بينما في الخارج تفتقر إلى الحس الأخلاقي من الأساس. وبذلك نجد أن قمع الأويغور وأبناء التبت، والحملة القاسية داخل هونغ كونغ، والعدوان المحتمل ضد تايوان - جميعها عناصر في صورة الجغرافيا الإمبريالية الصينية لشعوب من خارج عرق الهان تحيط باللب العرقي الصيني المتمثل في الهان.
ومع هذا، فإنه فيما وراء حدودها الحقيقية والمتخيلة، تسعى الصين لتحقيق التناغم، بدلاً من الصراعات حول القيم. ولا يعتبر هذا نهجاً أنانياً بالصورة التي قد يبدو عليها، فالصينيون بداخلهم يدركون جيداً أن نظام الجزية الإمبريالي الذي انتهجته الصين ما بين منتصف القرن 14 ومنتصف القرن 19 في شرق آسيا، أثبت أن الهيمنة يمكن إرساؤها على نحو أكثر استقراراً وأقل دموية عن نظام توازن القوى داخل أوروبا.
في هذا الصدد، يشرح بروفسور العلوم السياسية بجامعة ساوزرن كاليفورنيا، ديفيد سي. كانغ، أن نظام الجزية ذلك «احتوى التزامات كبيرة من جانب الصين، إزاء عدم استغلال الدول الثانوية التي قبلت سلطتها». وأضاف أن الصين كانت القوة الأولى، لكن الدول الثانوية تمتعت «بقدر كبير من الحرية» في تصريف شؤونها.
من ناحيته، يبدو الشعب الصيني متصالحاً للغاية مع ماضيه وتقاليده الإمبريالية، بخلاف شعوب الغرب التي تنفي وتعتذر اليوم عن هذا الماضي. الواضح أن كل ما تسعى خلفه الصين، المكانة، بمعنى أنه إذا أظهرت لها الاحترام سيمكنك إنجاز الكثير معها على صعيد التعاون الدولي.
اليوم، ومع تحرك الولايات المتحدة نحو ما يطلق عليه «حرب باردة» مع الصين، من المهم عدم التورط في المبالغة في نوايا بكين. ومع أن الصين دولة لا تعرف الشفقة، فإنها لا تسعى نحو غزو دول أخرى على النحو التقليدي، فيما وراء أراضيها والبحار المجاورة لها. تسعى الصين للهيمنة على - والتأثير في - الاقتصاديات الأجنبية، ولكن ليس المجتمعات الأجنبية، ولا الأسلوب الذي تحكم به نفسها. الحقيقة أن الصين ليست قوة ثورية رغم لقبها الشيوعي. ومع ذلك، فإنه نظراً لأن الصين تتصرف على نحو إمبريالي وتجاري، تفتقر علاقاتها إلى الشفافية والأعراف القانونية المتبعة في الأنظمة القائمة على الديمقراطية التمثيلية. ومن أجل ذلك، نعاين تحول مبادرة «الحزام والطريق» إلى منظومة قمعية تقوم على إبرام اتفاقات تجد الدول الكثيرة القائمة في طريقها، التي تتسم بمستويات مرتفعة، نفسها متوافقة معها تماماً.
والآن، فإن الحل في مواجهة هذا التحدي ليس مجرد محاكاة سلوك الصين عبر انتهاج سياسات واقعية أميركية، مثلما يبدو أن بومبيو والرئيس دونالد ترمب يرغبان بالفعل، وإنما العودة إلى الواقعية المستنيرة التي انتهجتها واشنطن أثناء «الحرب الباردة» وعقود ما بعد «الحرب الباردة»، التي تحتل في إطارها حقوق الإنسان مكانها بين المصالح الوطنية الأخرى.
وعلينا أن نتذكر أن الأميركيين فقدوا حماسهم التبشيري على نحو جزئي، بسبب الإخفاقات التي وقعت على صعيد محاولات فرض الديمقراطية على العراق وأفغانستان، واضطرارهم بعد ذلك إلى العيش مع رد الفعل العنيف الذي ترتب على ذلك.
وتحركت بوصلة السياسة الخارجية الأميركية من جهة متطرفة إلى الجهة المقابلة. ويعني التنافس مع الصينيين على الصعيد الإمبريالي، استعادة نهج مثالي معتدل يسمح للعالم التمييز بين غرب مستنير والسادة في بكين.
أما العنصر الأهم على هذه الصعد فيكمن في أنه نظراً لامتلاك الصين رؤية نظام إمبريالي - «الحزام والطريق» - فإنه يتعين على الولايات المتحدة امتلاك نظام خاص بها إزاء النظام الدولي. أما السبيل المثلى إزاء تحقيق ذلك فهي بناء تحالفات اقتصادية وعسكرية وديمقراطية مع دول أخرى.
وتعتبر الشراكة العابرة للمحيط الهادي مثالاً ممتازاً على هذا الأمر، التي مزقها ترمب لدى دخوله المكتب البيضاوي عام 2017. الحقيقة أن التنافس مع الصين وتمييز أنفسنا عن منظومة القيم الصينية، يستلزم إعادة هيكلة الشراكة العابرة للمحيط الهادي والبناء عليها.
المؤكد أن للصين حدوداً. وربما كانت تصرفات بكين داخل هونغ كونغ، المستعمرة البريطانية السابقة، سبباً في إغلاق المملكة المتحدة أسواقها أمام شبكة «هواوي» للجيل الخامس. ومع مرور الوقت، من المحتمل أن يصبح الأوروبيون ساخطين على نحو متزايد تجاه السجل الصيني بمجال حقوق الإنسان. ورغم أن البعض قد يبالغ في تقدير القوة الناعمة، فإنه تبقى لها أهميتها. والدرس المستفاد هنا أن إمبراطورية الصين الجديدة أمر تتعذر مقاومته فقط إذا لم تطرح الولايات المتحدة بديلاً.

* بالاتفاق مع «بلومبرغ»