عادل درويش
صحافي معتمد في مجلس العموم البريطاني، وخبرة 55 عاماً في صحف «فليت ستريت». وكمراسل غطى أزمات وحروب الشرق الأوسط وأفريقيا. مؤرخ نشرت له ستة كتب بالإنجليزية، وترجمت للغات أخرى، عن حربي الخليج، و«حروب المياه»؛ أحدثها «الإسكندرية ، وداعاً: 1939-1960».
TT

العام الأول لبوريس جونسون في «داونينغ ستريت»

أكثر أحداث تسبب التوتر للإنسان، بتصنيف علماء سيكولوجيا السلوك الاجتماعي، هي الطلاق، وموت أعزاء، ونقل المسكن، ومرض أو إصابة مؤلمة، وفقدان الوظيفة أو تعديلها. ورغم ندرة تجمع ثلاثة من هذه الأحداث في حياة إنسان في خمس سنوات، فقد حلت كلها ببوريس جونسون قبل انتهاء العام الأول من توليه رئاسة الحكومة البريطانية، الذي صادف أول من أمس؛ بجانب أحداث أخرى في لائحة التوتر، فقد رزق بطفل جديد، وخاض انتخابات مصيرية، ويواجه أكبر خطر يهدد البلاد منذ الحرب العالمية الثانية، وباء «كورونا»، مسبباً موت عشرات الآلاف مما يقض مضاجعه كزعيم مسؤول عن سلامة الشعب.
الخطر الذي واجه مثله الأعلى، السير ونستون تشرشل، في أحلك ساعات البلاد كان محدد المعالم، متمثلاً في القوات النازية على الناحية الأخرى من بحر المانش وسبل مواجهتها متوفرة، بينما تواجه البلاد اليوم خطراً يصعب حتى رؤيته بالميكروسكوب، ولم يبتكر العلم مصلاً للوقاية منه، أو للعلاج من المرض بعد. أما المرض الذي حل بجونسون فكان «كوفيد - 19»، ونقل إلى العناية المركزة وفرصة نجاته من الموت كانت 50 في المائة، فقط، وأعددنا نحن الصحافيين، خصوصاً من يعرفونه منا شخصياً، مرثياته في حالة موته المفاجئ، وطلب الوسائل الصحافية السريعة نشرها على المواقع، أو الظهور في التلفزيون للحديث عن حياته.
في تقييم العام الأول لجونسون رئيس وزراء، لا بد من الاعتراف بأنه واجه أصعب اختبار يمكن أن يمر به أي زعيم سياسي، فما بالك بحال رئيس وزراء المملكة المتحدة والمسؤوليات الجسام الملقاة على عاتقه، وهو شخصياً الظريف خفيف الظل المتفائل الذي لا يلتفت إلى التفاصيل، فوجد نفسه يتعامل مع أدق صواميل ومسامير آلة الحكومة الضخمة؟
واجه خلال الأشهر الأولى في داونينغ ستريت حملة شعواء من صحافة أغلبها معادٍ، خصوصاً التلفزيونية والإذاعية التي كانت (ولا تزال غالبيتها) في مجموعها تحاول عرقلة خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، وحاولت إعاقة جونسون عن تنفيذ وعده للشعب بحمل إرادته التي صوّت عليها في استفتاء 2016 بالمضي في بريكست. الغالبية العظمى من نواب مجلس العموم، ورئيسه السابق جون بيركو، بذلوا كل ما في وسعهم للحيلولة دون تنفيذ الوعد بكل الحيل والأساليب البرلمانية التقليدية المشروعة وغير المشروعة المبتكرة من خارج اللوائح. بل إن الانتخابات نفسها التي كان جونسون يسعى إليها حاول النواب أيضاً منعها، حتى تمكن من طرح قفاز التحدي لأحزاب المعارضة، ما اضطرها للموافقة على إجراء الانتخابات التي فاز فيها بأكبر أغلبية في تاريخ حزب المحافظين منذ فوز الراحلة الليدي ثاتشر، وكلها نقاط إيجابية تسجل له في كشف حساب السنة الأولى. الانتصار في الانتخابات لم يكمن فقط في زيادة أغلبية المحافظين، بل في اختراق ما يعرف بالسد الأحمر الذي كان يحمي الدوائر الانتخابية في مناطق الشمال الصناعية كحكر لحزب العمال الاشتراكي، إذ صوت أغلبها للمحافظين.
أيضاً واجه جونسون ما سماهم بالمشككين، والمتشائمين ودعاة الهزيمة، ويقصد البقائيين في الاتحاد الأوروبي، وأثبت زعامته في ضرورة التزام أعضاء الحزب بسياسته بطرد ثمانية عشر نائباً من الحزب، بما فيهم السير نيكولاس سومز، حفيد قدوته تشرشل.
حكومة جونسون ارتكبت أخطاء فادحة في مواجهة الوباء، لكن نأخذ في الاعتبار انقسام علماء الفيرولوجيا (الفيروسات) والأطباء حول نوعية الإجراءات، بينما الحكومة الجديدة ما زالت في مرحلة التشكيل مع نقص الإمكانات؛ كما أن الحملة الشرسة الممولة من البقائيين في الاتحاد الأوروبي امتصت طاقة الوزراء وشغلتهم عن المهام الوزارية، ما ساهم في سوء أداء الحكومة.
أيضاً نجح جونسون ووزير ماليته الشاب ريشي سوناك في اتخاذ إجراءات مالية غير معروفة خارج البلدان الاشتراكية، لدعم أصحاب الأعمال والشركات والمهنيين لحماية الوظائف أثناء الإغلاق بتكلفة تفوق 63 مليار دولار. تعويض الميزانية للخزانة وإدارة الاقتصاد مع فقدان أكثر من 88 ألف وظيفة هو تحدٍ جديد يضاف إلى دوسيهات الأولويات على مكتب جونسون. فمواجهة موجة ثانية من الوباء تتطلب تقليص عدد المصابين بالإنفلونزا العادية بتطعيم 30 مليون مواطن هذا الخريف، أكثر من ضعفي المطعمين سنوياً (13 مليوناً)، بجانب تنفيذ البرنامج الانتخابي، وهو تطوير الموانئ لترويج حركة تصدير واستيراد محررة من القيود، ودعم الأعمال والتجارة والصناعة بإصلاح اللوائح الضريبية، وتحريرها من البيروقراطية، وجذب الاستثمارات. فقد كشف الوباء فجوات سلبية في نموذج العولمة، ما يتطلب الاستثمار في عدد كبير من الصناعات لمنتجات اعتمدت البلاد على استيرادها، خصوصاً من الصين، التي وجدت البلاد نفسها في مواجهات سياسية معها. أيضاً تعديل لوائح الهجرة في مواجهة غزو غير مسبوق بالقوارب عبر بحر المانش، وكلهم تقريباً مهاجرون من شباب يافع لا تنطبق عليهم صفات اللاجئين.
كما عادت مشكلة انفصال اسكوتلندا، لتطل برأسها مع استغلال وزيرتها الأولى الشعبوية نيكولا ستيرجين، الوباء، بعقد مؤتمر صحافي يومي لزيادة شعبيتها، وبالتالي سيتعين على جونسون أن يقنع الناخب الاسكوتلندي بالحقيقة، وهي أن دافع الضرائب الإنجليزي هو الذي يمول الخزانة الاسكوتلندية، وهذا يعني أن يكرر من زياراته لاسكوتلندا، وآخرها كان قبل ثلاثة أيام، رغم أن اليسار يدعم الحركة الانفصالية في تنظيم معارضة غوغائية ضد زياراته للمدن الاسكوتلندية دائماً.
ولعل أكبر التحديات التي تواجه جونسون هي في التجارة الخارجية، في التوصل لاتفاق تجارة سريع مع الولايات المتحدة، ومحاولة إتمام صفقة تجارة مع الاتحاد الأوروبي بينما بروكسل لا تفاوض بنية حسنة، وإلا كانت استبدلت رئيس وفد المفاوضين ميشيل بارنيه؛ فاستراتيجيته لم تكن التوصل لاتفاق، بل المماطلة وإغراق المفاوضين بتفاصيل وخلافات بأمل أن تتغير موازين السياسة الداخلية في بريطانيا، ويلغى «البريكست»، لكن فوز جونسون الحاسم في الانتخابات غير هذه الحسابات. وتأكيد سيادة برلمان وستمنستر على القرار الوطني فيما يتعلق بالمياه الإقليمية، وثروتها السمكية، وحرية التفاوض مع أطراف دولية أخرى في صفقات تجارية بلا تدخل من مفوضية بروكسل، هي ثوابت يجب عدم التنازل في أي منها، ولو يعني ذلك الخروج بلا اتفاق تجاري.
قبل الإجازة الصيفية للبرلمان، مساء الأربعاء، اجتمع جونسون بالنواب المحافظين، سبعة منهم من أصدقائي المقربين من تيارات مختلفة أكدوا لي تفاؤلهم وثقتهم بزعامته، واستمرار دعمهم له. الصعوبة الأكبر التي تواجه جونسون، هي التحول من طاقة الحملة الانتخابية وسخونة شعاراتها إلى ما بعد الدوش البارد في مواجهة واقعية وتحديات سدة الحكم؛ تحول لم ينجح فيه زعماء آخرون كالرئيس دونالد ترمب.