أكثر الأشياء التي اعتقد زكريا قورشون واهماً أنها مهمة بالنسبة لطرحه التاريخي في مقالاته الأخيرة، كانت مسألة الحرمين الشريفين وخدمة العثمانيين لهما. وكعادة الأتراك والمؤرخين الذين ساروا على نهجهم، فإنهم يتمحورون حول النظرة الإيجابية تجاه سيطرة العثمانيين على الحرمين، في حين أن هنالك قضايا تاريخية مُخجلة للعثمانيين في الحجاز عامة، واجتهد بعض المؤرخين لإخفائها، فيما أنهم لم يستطيعوا طمس المصادر التاريخية التي تناولتها.
أظن أن أكبر أزمات المؤرخين الأتراك تكمن فيما ورد في المصادر، قبل أن تكون لهم أزمة مع العرب أنفسهم، باعتبار أن هذه المصادر لا يمكن إخفاء ما فيها من طرح وموضوعات صريحة، تُدين العثمانيين وحكمهم للحجاز.
الحرمان الشريفان
جاء طرح قورشون عن الحرمين مرتكزاً على حيازة لقب خدمة الحرمين للسلاطين العثمانيين، على رغم أنهم لم يكونوا السباقين في ذلك، بل سبقهم بها صلاح الدين الأيوبي حين اتخذ لنفسه لقب خادم الحرمين الشريفين.
وطرح موضوع الحرمين يأتي في سياق محاولة النيل من خدمة السعودية للحرمين وإنجازاتها الـمُتلاحقة التي باتت تمثل إرباكاً واضحاً للأتراك، باعتبار أن ذلك يفترض عملية المقارنة بين سلطتين في هذه الخدمة. وبشكل طبيعي، فإن المقارنة محسومة وغير ممكنة، فالسعوديون قاموا بمهمتهم من منطلقات سامية، أولها الشريعة الإسلامية الصافية النقيَّة التي تحض على خدمة الأماكن المقدَّسة في الحرمين المكي والنبوي، والثاني خدمة للعالم الإسلامي والمسلمين كافة في بقاع الأرض، والثالث باعتبارهما جزءاً وطنيّاً مهمّاً من المملكة العربية السعودية.
على النقيض، فالدولة العثمانية خدمت الحرمين لهدف وحيد، وهو الدعاية السياسية لإمبراطوريتها التي تفرض على أساسها مسؤوليتها على أكبر بقعة جغرافية من العالم الإسلامي، ومن ثم تُضفي عليها طابعاً يجعل من سلطتها محلَّ قداسة بحسب ما كانوا يسعون إليه. ومن يرد الإثبات التاريخي فعليه أن يتصوَّر كيف أن العالم العربي - ومنه الجزيرة العربية - كان يعاني الإهمال السياسي والاقتصادي في معظم أجزائه، والخليج العربي تُرك للطموحات الأوروبية الاستعمارية، والأندلس يستصرخ العثمانيين من دون تحركات جادة من الدولة العثمانية لحمايته، ففي الوقت الذي كانت تدور فيه هذه الأحداث خلال فترات تاريخية متفرقة كانت الدولة العثمانية تسعى لتحقيق سياستها في العالم الأوروبي، وتصوغ دبلوماسيتها في فرنسا وغيرها، من دون أن تتعامل بشكل جاد للنهوض بالأماكن التي تدَّعي تبعيتها لها، والتي يفترض عليها حمايتها بحسب ادعائها.
لذلك؛ فإن الشعوب العربية، ومنها سكان الجزيرة العربية، كانوا يدركون حقيقة الأتراك العثمانيين جيداً، ويعون جرمهم في استنزاف أوطانهم، فوقف شعب الجزيرة ضد المشروع العثماني، ورفض الحلول التي تفرض الهيمنة العثمانية، من خلال دعم الشرعية الوطنية المتمثلة في أئمة الدولة السعودية، سواءً في نهاية عصر الدولة السعودية الأولى، أو في الفترة بين الدولتين، أو بعد ذلك خلال عصر الدولة السعودية الثانية وعهد الملك عبد العزيز - طيب الله ثراه. حتى حينما حاول العثمانيون تحقيق مشروعهم بأحد أفراد الأسرة السعودية في الدولة السعودية الثانية، كي يتسلم الحكم باسمهم فشلوا بعدم انسياق السكان لهم أو لمن يمثلهم، وكانت مشروعاتهم الاستعمارية تفشل واحدة تلو الأخرى.
وللتأكيد على أن العثمانيين لم يقوموا بخدمة الحرمين الشريفين بشكل يوحي برغبة مخلصة وخدمة للدين الإسلامي، فإنه لم يقُم أي سُلطان من سلاطينهم بزيارة الحرمين أو أداء فريضة الحج، فخدمة الحرمين الشريفين تقتضي رعاية الحاكم لهما وزيارتهما، والوقوف على ما يُقدَّم من خدمات يُعتبر مسؤولاً عنها بشكل مُباشر كما ألزم العثمانيون أنفسهم خلال فترة سيطرتهم على الحجاز.
ولكي نعي أن النظرة السياسية سيطرت على العثمانيين تجاه تبعية الحرمين الشريفين لهم فإنهم لم يتعاملوا مع الدولة السعودية الأولى، التي سعوا إلى تقويضها، إلا حينما ضمت الحرمين الشريفين، ومما أثبته قورشون نفسه أن العثمانيين لم يتحركوا ضد الدولة السعودية الأولى إلا بعد ضم مكة المكرمة؛ إذ يقول «وكانت الدولة العثمانية قد اشتعلت غضباً لاستيلائهم على مكة، وبادرت على الفور بإخبار الولاة المجاورين بالمنطقة بما جرى، وأرسلت إليهم الأوامر المشدَّدة للتحرك واتخاذ التدابير اللازمة». (زكريا قورشون، العثمانيون وآل سعود في الأرشيف العثماني 1745 - 1914م، بيروت: الدار العربية للموسوعات، 2005، 75).
علماً بأن العثمانيين سعوا إلى التحالف مع قوى أجنبية لإسقاط الدولة السعودية الأولى، ومنها بريطانيا. وتدلل على ذلك زيارة النقيب البريطاني جورج فوستر سادلير الذي زار معسكر إبراهيم باشا سنة 1334هـ/1819م، وقدم له التهنئة على إسقاطه دولة السعوديين، وتباحث معه حيال حشد القوى المحلية والإقليمية لتنفيذ هجوم مشترك عثماني - بريطاني على آخر الموالين للدولة السعودية الأولى في رأس الخيمة والشارقة شيوخ القواسم، بقصد القضاء على النفوذ السعودي حتى بعد سقوط الدولة. لذلك؛ قامت بريطانيا بإطلاق حملتها الرابعة على الشارقة مستغلة الخدمة العثمانية في ذلك، بعد التفاهم والتنسيق فيما بينهم. وقد وصل الحقد العثماني على السعوديين أقصى صوره، ويترجم بريدجز ذلك بقوله «بذلك انتهت الحكومة التي أسسها الشعب الذي تحول من الضعف إلى القوة، وأثار الذعر للباشوات الأتراك في آسيا، وسلطانهم في القسطنطينية على حد سواء. كما انخدع الوهابيون بمدى قوتهم الحقيقية وتصوروا أنهم يستطيعون تحدي الحكومة البريطانية»، وهذا مما يثبت وقوف بريطانيا مع العثمانيين في إسقاط الدولة السعودية الأولى. (للمزيد راجع: جورج فوستر سادلير، يوميات رحلة عبر الجزيرة العربية 1819م، ترجمة: عدنان العوامي (بيروت: دار الانتشار العربي، 2016)؛ Harford Jones Brydges، A Brief history of the Wahauby (London: JAMES BOHN، 1834)، 105)
أما لقب خادم الحرمين الشريفين الذي اتخذه سليم الأول فيدعو للطرافة بأن يقول بكل افتخار بأنه أوَّل من حازه، وفي الوقت نفسه يضيف «بعد صلاح الدين الأيوبي»، فأين الأوليَّة التي أشار إليها، فالجميع يستطيع أن يفخر بأنه الأول بعد الذي قبله، وخدمة الحرمين الشريفين ليست بالألقاب والأسبقية، بل بالأفعال والشواهد التاريخية.
حقيقة، إن العثمانيين قدَّموا بعض الخدمات للحرمين الشريفين، لكنها لم تكن - كما وصف قورشون - على أتمِّ وجه، وسليم الأول أعلن نفسه خادماً للحرمين الشريفين سنة 922هـ/1516م قبل أن يسقط دولة المماليك، وأعلن حينها أن هدفه الاستيلاء على الحرمين. (للمزيد الرجوع إلى: ابن طولون، مفاكهة الخلان؛ ابن إياس، بدائع الزهور).
ومما يُغفله قورشون في مسألة الاستيلاء على الحجاز، أن سليماً كان ينوي إرسال حملة عسكرية لتحقيق ذلك خلاف ما قاله من أن الشريف بعث ابنه طوعاً، وهذا مما ورد لدى السنجاري في «منائح الكرم»؛ إذ ذكر أنه كان ينوي إرسال جيشه لولا أن مجموعة من أهالي الحجاز الذين كانوا في مصر بعد إسقاطه المماليك أشاروا عليه بمراسلة الشريف، حيث تمت مراسلة شريف مكة بطلب إرسال ابنه إلى سليم وإعلان الولاء. (علي السنجاري، منائح الكرم في أخبار مكة والبيت وولاة الحرم، تحقيق: ماجدة زكريا، مكة المكرمة: مركز إحياء التراث الإسلامي، 1998، 3: 225 - 227).
وحين استولى العثمانيون على الحجاز اكتفوا بإقامة سنجقيَّة في جدة؛ بهدف مراقبة مكة المكرمة التي بقيت تحت الحكم الذاتي للأشراف، وهذه من سياسة العثمانيين في ضم كثير من البلدان وإدارتهم فيها، وأصبح اهتمام العثمانيين بالحرمين الشريفين في إطار تحقيق الدعاية لهم، من خلال بعض المساعدات الماديَّة، وتثبيت وجود مذهب السلطنة الرسمي بإعادة تعمير مقام المذهب الحنفي في الحرم المكي.
بعد تسع سنوات من استيلائهم على الحجاز، وتحديداً سنة 932هـ/1525م، استباحوا الحرم المكي كما يصف ابن فهد بقوله «وقد عملوا بمكة أعمالاً شنيعة، من هجم بيوت الناس، وإخراجهم منها مع حريمهم، ووضع أيديهم على أمتعتهم وإتلافها، وسكنهم فيها عوضهم، فيستغيث الناس فلا يجدون من يغيثهم إلا الله تعالى، وكثر ضررهم بذلك، وصار يدعو عليهم كل قاطن وسالك، ثم إنهم تمادوا بالأذى، وتجاهروا بالفسق في النساء، وأخذ المأكولات من السوق بثمن بخس، وبعضهم لا يعطي شيئاً». (جار الله بن فهد، نيل المنى بذيل بلوغ القرى لتكملة اتحاف الورى، تحقيق: محمد الهيلة، مكة المكرمة: مؤسسة الفرقان للتراث الإسلامي، 2000. 1: 357 - 362).
فأي خدمة تبدأ بالاستباحة؟ وقد توالت بعد ذلك كثير من الأحداث انتهكوا فيها الحُرمات كما ورد في المصادر التاريخية تفصيله، ولكن على رغم ذلك، فإن ما يدَّعيه العثمانيون ومؤرخوهم من عمارة في الحرمين الشريفين كان يتم برغبة الأشراف وإلحاحهم عليهم؛ إذ إن الترميمات والعمارة كانت تتم في أضيق الحدود، وهذا يأتي بحكم أن الأعمال العمرانية - وخاصة في القرن العاشر الهجري - كانت تُقام بحذر شديد من قِبَل العثمانيين، بحكم أن غلاة الصوفية التابعين لهم ينظرون إلى الأعمال الإنشائية نظرة غير واقعية، تتلخص في أن البنية الشريفة محفوظة بما لا حاجة معه إلى التعرض لبنائها بتعمير أو صيانة؛ لذلك أي عمل إنشائي أو صيانة أو تطوير عمراني كان يتم في أضيق الحدود، وبعد مداولات واجتماعات وصراعات كثيرة بين تيارات مختلفة. (للمزيد الرجوع إلى: ابتسام كشميري، مكة المكرمة من بداية الحكم العثماني إلى نهاية القرن العاشر الهجري - السادس عشر الميلادي، مكة المكرمة: جامعة أم القرى، 2001).
وبناءً على ذلك؛ فإن حالة التشدُّق التركي بخدمة الحرمين الشريفين والمساعدات التي كان يقدمها العثمانيون تملؤها المثالب والمصائب، ولا تُقارن بما وصلت إليه خدمة الحرمين الشريفين في المملكة العربية السعودية، فالعثمانيون يقدمون الخدمات التي تلحقها المصائب، بحسب المصادر التاريخية والاستباحات، وأخذوا من خدمة الحرمين أكثر مما أعطوا، ناهيك عن انتهاك حرمة الحرمين في كثير من الأحداث التاريخية، كما فعل فخري باشا في المدينة المنورة في حادثة «سفربرلك» حينما هجَّر أهلها، وسجن من علمائها ووجهائها ما يقارب 170، ونفاهم إلى الشام والأناضول وأصبحوا كالسجناء خلال الحرب العالمية الأولى، في غربة قسريَّة وحال من التشرد والضيق، ولم يهمه المصير المأساوي للسكان الذين أطلق يد جُند حاميته بالقبض عليهم في الشوارع من دون أن يراعوا إن كان المقبوض عليه امرأة أو طفلاً أو عاجزاً أو رب أسرة، والمآسي التي رويت من أهالي المدينة حيال ذلك متعددة وكثيرة، لا يمكن أن يغفرها التاريخ لفخري والعثمانيين.
فخري الذي لم يكن يخطب على منبر المسجد النبوي إلا وينال العرب بالسباب والشتم ووصفهم بالخيانة. فخري الذي أحاط الحجرة النبوية في الحرم والقبر الشريف وساحات الحرم النبوي بالمتفجرات حين ضُيق عليه الخناق وهدد بتفجير الحرم، وقبلها سرق مقتنيات الحجرة النبوية، ووصلت المدينة من تعسفه حدَّ المجاعة التي أكل فيها الناس القطط وجثث الموتى بعد أن نبشوا القبور.
وآخر عهد العثمانيين بالحرم المكي بأعظم اعتداء على الحرم في العصر الحديث، حين أعلنت ثورة الشريف حسين بن علي عام 1334هـ/1916م، ذلك عندما قامت الحامية العثمانية بإطلاق مدفعيتها على الحرم المكي من قلعة جياد، حيث أصابوا بنار مدفعيتهم وقذائفهم البيت الحرام من فوق الحجر الأسود، وأشعلوا النار في ستار الكعبة، وأصابوا أروقة المسجد بقنابلهم. (عبد الله بن الحسين، مذكراتي، عمَّان: الدار الأهلية، 1989. 114 - 116).
وحقيقة، لو أننا تتبَّعنا السيطرة العثمانية على الحرمين الشريفين فإننا سنجد كثيراً مما يتناقض مع ما يتردد في الكثير من الكتب والبحوث والدراسات من تعظيم الخدمات العثمانية، في حين أنهم لا يرعون حرمة للحرمين، ولا يكترثون بإقامة المحرمات واستباحة الأماكن المقدسة، وفيما سقناه من أمثلة ما يكفي وحده لنقض ذلك، في حين أن التتبُّع التاريخي سيكشف المزيد من المصائب العثمانية في الحرمين.
فقد فعل العثمانيون في مكة المكرمة وحدها - ناهيك عن المدينة المنورة - ما يفوق ما فعله أبرهة الحبشي قبل الإسلام عند انتهاك الحُرمة، وقاموا بما هو أعظم مما قام به الحجاج بضرب الكعبة بالمنجنيق، وشابهوا القرامطة بأخذ قطع من الحجر الأسود في عهد القانوني.
لذلك؛ تمنيت لو أن قورشون قرأ التاريخ جيداً، وألا يكتفي بما هو مدون في أوراق الدولة العثمانية الرسمية، فالتباهي بها لا يعكس الواقع التاريخي، بحكم أن وثائقهم وكتاباتهم تُمثل وجهة النظر الرسمية، ولا تمثل الواقع التاريخي، وتحكي التاريخ الذي يريدون إظهاره، لا التاريخ الذي يريدون طمره.
وما يقوم به قورشون وغيره ما هو إلا إشاعة تاريخ مُلوَّث بمناداة الإرث القديم، لمحاولة إنتاج قوة سياسية وفق آيديولوجية تعمل على تبديد جزء من النظام الطبيعي، ومحاولة العيش وفق أرستقراطية تميز الترك عن باقي الشعوب، ومنها العربية، والعودة إلى العيش من دون عمل كما فعل العثمانيون بالاعتماد على ثروات غيرهم.
- أكاديمي وإعلامي سعودي