جمعة بوكليب
كاتب ليبي؛ صحافي وقاص وروائي ومترجم. نشر مقالاته وقصصه القصيرة في الصحف الليبية والعربية منذ منتصف السبعينات. صدرت له مؤلفات عدة؛ في القصة القصيرة والمقالة، ورواية واحدة. عمل مستشاراً إعلامياً بالسفارة الليبية في لندن.
TT

تلوّن الساسة وثبات الحقيقة

عودة «بريكست»، هذه الأيام، إلى خشبة المسرح السياسي البريطاني، في وقت ما زال فيه وباء فيروس «كورونا» يستحوذ مستأسداً على الاهتمام، جعل من المهم على المراقبين متابعة التبدلات التي سببها حضوره غير المرغوب في تحركات السياسيين بين الحدثين، والتعامل معهما باستجابتين مختلفتين؛ التعامل مع الفيروس وفقاً لمنطق حقائق العلم، وآراء العلماء. والتعامل مع «بريكست» بمنطق المكر السياسي، البعيد عن الحقيقة، والمرتهن بيد العداءات السياسية القديمة، والاختلافات الحزبية، والموقف المبدئي منه قبولاً أو رفضاً.
الذين منّا أتيحت لهم، خلال السنوات الثلاث الماضية، فرصة معايشة أزمة «بريكست»، وما رافقها من حملات سياسية وانقسامات حزبية، وما حاول الطرفان، كلٌّ من جهته، استخدامه من أسلحة كانت في متناوله، يُدرك أن الطرف المنتصر في تلك المعارك الطويلة والمرهقة، لم يكن دائماً، الطرف الأكثر إقناعاً، وأقوى حجة من الطرف المهزوم. والسبب هو أن معارك «بريكست»، منذ يومها الأول، قامت على مبدأ « الغاية تبرر الوسيلة». وبذلك، تحولت إلى حرب شرسة، أهم أسلحتها عدم قول كل الحقيقة وربما التضليل من جانب المناصرين للخروج. ومن جانب المعارضين له كان التخويف والتهويل من عواقب المصير. وفي الما بين اختفت الحقائق ضائعة ومتلاشية في غبار المعارك. ولم يكن هناك حاجة لعلماء متسلحين بحقائق العلم، بقدر ما كانت الحاجة لخبراء في فن إدارة الحملات، واستقطاب الرأي العام إعلامياً، بهدف استمالة الناخبين، وكسب أصواتهم.
بمجرد خروج «بريكست» من الباب، وانتصار المطالبين بالخروج في انتخابات نيابية في شهر ديسمبر (كانون الأول) 2019 منحتهم أغلبية برلمانية كبيرة، دخل الوباء الفيروسي خلسةً من النافذة، وسرعان ما فرض حضوره القاتم على الساحة، واستحوذ، بقدر ملحوظ، على اهتمام الجميع – المناصرين والمعارضين للخروج - حتى بدأنا نشاهد نفس السياسيين وقد فاجأتهم الأزمة، وبدأوا التحرك لمواجهتها، بوجوه علا ملامحها الجزع، وتابعنا سعيهم لمحاولة إيجاد حلول لمعالجتها باستجابات سياسية مختلفة جداً عما عرفناه عنهم في الأزمة الوبائية. وبدلاً من الاستعانة بخبراء إدارة الحملات السياسية والانتخابية الذين يعملون من وراء كواليس ويحيكون ما أجادوه من تضليل، سعياً وراء تحقيق الهدف المرجوّ، رأينا السياسيين وقد تحركوا في اتجاه مختلف. هذه المرّة، كانت الحاجة تستدعي الاستعانة بالعلماء والمختصين، وكان العلم والحقائق العلمية والصحّية، وأهم وسائل الوقاية من الوباء المميت، هي الوسيلة. وكان رئيس الحكومة وأعضاء وزارته حريصين في مؤتمراتهم الصحافية اليومية على إحاطة أنفسهم بشخصيات ذات مكانة علمية وتخصصية لا مجال للتشكيك في مصداقيتها، وخلو آرائها من أي روائح ذات صلة بتحقيق مكاسب حزبية - سياسية. تمحور النقاش في «بريكست»، بين الفريقين في اختلافهما حول مفهوم مستقبل بريطانيا. المناصرون للخروج يؤكدون أنه سيكون أفضل بقطع الخيوط التي تربط بريطانيا بالاتحاد الأوروبي، في حين أن المعارضين يرون أنه سيكون أفضل بمواصلة البقاء، والاحتماء بما يوفره من ضمانات سياسية واقتصادية. لكن في أزمة الوباء الفيروسي اكتسب النقاش طابعاً مختلفاً، بعيداً عن أجواء ومناخات الجدل السياسي، ويقوم على «القياس العلمي»، ومحاولة عبور الأزمة بأقل خسائر بشرية واقتصادية.
لدى عودة «بريكست»، مؤخراً، إلى خشبة المسرح السياسي، ودنوّ أجل الخروج النهائي، أصبح من اللافت الاهتمام بما أحدثه من تغيّر في طرق استجابة السياسيين في التعامل مع الأزمتين، وسرعة تحولاتهم، وتبدل ألوان منطقهم، وما في طيّات تصريحاتهم من تناقضات، قد تحدث، أحياناً، في نفس الوقت. فهم حين يكونون في مؤتمر صحافي، يتحدثون عن «بريكست»، يتكلمون بمنطق المكر السياسي وألاعيب مناوراته، آخذين في الاعتبار المترصدين لهم من أنصار البقاء، واحتمالات ردود فعلهم. ثم، حين يُطرح عليهم بعد ذلك سؤال مثلاً حول آخر تطورات الوباء الفيروسي، على المستويين الصحي والاقتصادي، يتخلصون من المناورة السياسية، ويتحولون، آلياً وتلقائياً ووقتياً، إلى أشخاص آخرين حريصين على تفادي الكارثة، ويلجأون إلى استخدام منطق العلم، مستدلين بالحقائق العلمية، من دون حاجة إلى تلوين أو تزويق، أو خوف من ردود فعل معارضيهم. ما يستحق الاهتمام هو أن معارضيهم، في الحقيقة، وفي أغلب الأحوال، يقفون معهم، جنباً لجنب، على نفس الخط. وإن حدث تضارب واختلاف فإنه لا يتعرض إلى الحقائق العلمية، بقدر ما يركز على أمور إجرائية علاجية بحتة. وعلى سبيل المثال، هل من الأفضل تطويل فترة الإغلاق منعاً لحدوث إصابات، أم تقصيره بهدف عدم إحداث ضرر جسيم بالاقتصاد ونشاطاته؟ وهل من المستحسن دعوة التلاميذ إلى الإسراع بالعودة إلى مدارسهم في شهر سبتمبر (أيلول) القادم أم التريث أكثر، والانتظار لفترة أطول؟ إذ لا أحد من الطرفين يريد أن يُظهر أمام الناخبين خلافه مع الحقائق العلمية، أو عدم اتفاقه مع العلماء والمختصين، حتى وإن كان الأخيرون يجهلون الفيروس، فما بالك بطرق مقاومته، ولذلك السبب تضاربت آراؤهم بشكل ملحوظ، واختلفوا في طرق مواجهته والقضاء عليه، وسببوا إرباكاً ليس عادياً للحكومة، كما تبيّن ذلك، منذ بداية الأزمة.