أندرياس كلوث
خدمة «بلومبيرغ»
TT

تطبيقات تتبع «كورونا» وقضية الخصوصية

لا تدور الحياة حول إيجاد الحلول المثالية، وإنما إقرار مقايضات صعبة. اليوم، بدأت تطبيقات تعقب الاتصال والاختلاط في الانتشار بمعدل سريع يفوق قدرتي على المتابعة.
لا شك أن الحجر وحبسنا داخل منازلنا حرمنا من حريتنا، وكذلك منعنا من السفر لأماكن معينة، ومن إرسال أطفالنا للمدارس، ومن الاختلاط مع الأقارب والأصدقاء. أما الدول التي حاولت الحفاظ على قدر أكبر من الحرية على هذه الأصعدة، مثل السويد، فقد دفعت الثمن غالياً في الأرواح التي فقدتها. وهنا، تظهر التطبيقات المستخدمة على نطاق واسع بصفتها جزءاً من البديل، فنحن نكشف عن بعض معلوماتنا في مقابل الحركة بقدر أكبر من الحرية.
وبذلك، يتضح أن الحرية لا تعني دوماً حرية الفرد الكاملة في الاختيار. وعندما نحصل على لقاح آمن في نهاية الأمر، ربما سيتعين علينا تمرير قانون يلزم الأفراد بتناوله من أجل تحقيق مناعة القطيع. وحتى ذلك الحين، ربما سيتعين علينا العمل على إقناع الناس واجتذابهم للمشاركة في جهود تعقب ومتابعة إلكترونية من أجل خدمة تعزيز تأثيرات الشبكة.
وبدافع من الفضول، وليس التفاؤل، قررت تنزيل أول تطبيق من هذه النوعية، تطبيق «كورونا» الذي جرى إطلاقه حديثاً في ألمانيا. ورغم أنني أتمنى أن تثبت الأيام خطأ اعتقادي، فإن حدسي يخبرني بأن ألمانيا أقرت كثيراً من المقايضات الخاطئة في هذا السياق، وكان ينبغي لها التعلم من تجارب دول أصغر، مثل سنغافورة.
بطبيعة الحال، يتمثل هدف جميع تلك التطبيقات في أمر واحد: عدم استبدال، وإنما تعزيز ومعاونة أدوات رصد الاختلاط البشري، لتنبيه الأشخاص القريبين من شخص مصاب. وفي الوقت الذي يستطيع البشر فيه تحديد هوية المخالطين الذين يعرفونهم فحسب، فإن البرامج الإلكترونية باستطاعتها الإشارة إلى الغرباء الذين هم في نطاق يسمح بانتقال الرذاذ من شخص إلى آخر.
إلا أن نجاح أي تقنية للتعقب يعتمد على ما هو أكبر بكثير من مهارتها في إرسال «إخطارات تعرض». فبمجرد أن تتلقى إخطاراً، هل يمكنك بالسهولة ذاتها الخضوع لاختبار لفيروس «كورونا»؟ وهل هناك موظف رعاية اجتماعية يتولى متابعة قضيتك لمعاونتك في أثناء الحجر الصحي، وتدبير احتياجاتك من البقالة، على سبيل المثال؟ بناءً على تجاربي الشخصية، أعتقد أنَّ ألمانيا وسنغافورة بلدان شديدا التنظيم، وبمقدورهما إنجاز مثل هذه الأمور على النحو المناسب.
إلا أنَّ النجاح في تعقب الاتصالات بالفعل يستلزم من أي تكنولوجيا أن تحقق أولاً ما يصفه خبراء اقتصاديون بتأثيرات الشبكة التي تبعاً لها، تزداد أهمية تطبيق ما مع زيادة أعداد الأفراد الذين يستخدمونه. فإذا كنت أنت الشخص الوحيد المشترك في تطبيق «كورونا»، فإن فائدة هذا التطبيق لا تتجاوز الصفر. أما إذا كان الجميع مشتركين فيه، فإن قيمته تصبح هائلة، ولا تقدر بثمن. ومن أجل أن يصبح تطبيق ما مفيداً بدرجة مقبولة، يرى خبراء أنه يجب أن يشترك فيه 3 على الأقل من بين كل 4 أشخاص.
وحتى يومنا هذا، لا يقترب أي من التطبيقات الطوعية من هذا المستوى على الإطلاق. حتى داخل سنغافورة، نجد أن قرابة شخص واحد فقط من كل 5 مقيمين يستخدمون تطبيق «تريس توغيذر» الذي أطلق في مارس (آذار) الماضي. وفي ألمانيا، يفكر نحو 42 في المائة فقط في تنزيل التطبيق الجديد، تبعاً لما كشفه استطلاع رأي. والآن، ما العوامل التي ربما تعيق إقرار مثل هذا التطبيق؟
من هذه العوامل الصعوبة النسبية الكامنة وراء استخدام تطبيق ما، إذ إن كلاً من «تريس توغيذر» وتطبيق «كورونا»، على سبيل المثال، يعتمد على تكنولوجيا «بلوتوث» اللاسلكية في تحقيق الاتصال بين الهواتف بعضها مع بعض، ولا شك أن إبقاء خاصية «بلوتوث» مفعلة يستنزف بطارية الهاتف بمعدل أسرع.
وتتمثل مشكلة أخرى أكبر في الخصوصية، والشعور بعدم الارتياح الذي يساور المرء إزاء فكرة خضوعه للمراقبة. وهنا، ثمة تباين كبير بين التطبيقات على مستوى العالم: هل المستخدمون مجهولون تماماً أمام النظام الإلكتروني المستخدم، أم أنه يمكن تحديد هويتهم، على نحو مباشر أو غير مباشر (مثلما هو الحال في الصين وكوريا الجنوبية مثلاً)؟ وما البيانات، بخلاف الحالة المرتبطة بالعدوى، التي يجري تجميعها في المقام الأول (في الصين وكوريا الجنوبية، تضمنت هذه البيانات معلومات عن السداد)؟ وأخيراً، هل سيجري حذف البيانات في نهاية الأمر، أم أنه يمكن استغلالها لغرض آخر؟
هنا تحديداً ثمة تباين هائل بين ثقافتي التعامل مع البيانات في ألمانيا وسنغافورة. ومثلما يتوقع المرء، أقرت ألمانيا الحد الأقصى من الخصوصية تجاه جميع الأسئلة المطروحة بخصوص التطبيق الجديد. وتتيح ألمانيا للمستخدمين اختيار إنهاء استخدام التطبيق في أي وقت، بجانب الإبقاء على هويتهم مجهولة تماماً. وربما يكتشف مستخدم ما أنه في وقت قريب كان داخل نطاق مترين من شخص مصاب لأكثر من 15 دقيقة، لكن لن يعرف أين حدث هذا على وجه التحديد. ونظراً للإبقاء على الهوية مجهولة، لن يكون من الممكن الاتصال بالمستخدمين. وعليه، فإن الأمر يرجع إليهم، إذا ما رغبوا في الاتصال والإبلاغ عن حالتهم الصحية، أو الحصول على تعليمات بخصوص الخطوات التالية. باختصار، ربما لا يحمل تطبيق «كورونا» في النهاية استفادة كبيرة.
في المقابل، أقرت سنغافورة توازناً مختلفاً تماماً، ذلك أن التطبيق الذي أطلقته يحمي خصوصية المستخدمين من المتلصصين والأشخاص المحيطين بهم، لكنه يتشارك في المعلومات مع السلطات المعنية بالشؤون الصحية، وذلك لأن هذا الأمر يوفر فائدة عظيمة. وبمقدور المسؤولين التواصل مع المصابين، وإذا حالفهم الحظ، ربما يتمكنون من تحديد الأشخاص المسؤولين عن القدر الأكبر من نقل عدوى الفيروس الجديد.
إلا أنه مع الاستخدام، أدركت سنغافورة أنه يتعين عليها بذل مزيد من الجهود في مجال التطوير. والآن، تستعد البلاد للتخلي تماماً عن الهواتف الذكية في هذا المضمار لصالح أجهزة جديدة تسمى «تريس توغيذر توكينز»، سيجري توزيعها على جميع المقيمين داخل البلاد، وقد جرى تقييد وظائفها عمداً. ويمكن ارتداء مثل هذه الأجهزة في حزام، ولن تتسبب في استنزاف بطارية الهاتف الذكي الذي يملكه المستخدم، ولن يتوافر لديها أي معلومات عن الشخص سوى حالته المتعلقة بالعدوى وهويته. وعلى خلاف الهواتف «الذكية»، فإن هذه الأجهزة «غبية» في تصميمها عن عمد.
وفي الوقت الحالي، تشجع سنغافورة الأفراد بقوة على ارتداء مثل هذه الأجهزة، لكنها قد تجعل هذا إجبارياً في نهاية المطاف، ما يكشف أنها تسير في الاتجاه المعاكس تماماً لألمانيا. والسؤال: هل تعد هذه سياسة غير ليبرالية؟
ينبغي لنا دعم مثل هذه الإجراءات فقط بناءً على شرط مسبق، يتمثل في كونها مصممة وتجري السيطرة عليها من جانب قوانين جرى سنها على نحو ديمقراطي، لكن قليلاً من الإكراه ربما يكون ضرورياً الآن لمنع ظهور موجة ثانية، أو حدوث وباء جديد في وقت لاحق.
* بالاتفاق مع «بلومبرغ»