سليمان جودة
رئيس تحرير صحيفة «الوفد» السابق. كاتب العمود اليومي «خط أحمر» في صحيفة «المصري اليوم» منذ صدورها في 2004. عضو هيئة التحكيم في «جائزة البحرين للصحافة». حاصل على خمس جوائز في الصحافة؛ من بينها: «جائزة مصطفى أمين». أصدر سبعة كتب؛ من بينها: «شيء لا نراه» عن فكرة الأمل في حياة الإنسان، و«غضب الشيخ» عن فكرة الخرافة في حياة الإنسان أيضاً.
TT

فرع تونس الذي لا يتعظ من أصل القاهرة!

لو كتب الله للأستاذ جمال البنا، الشقيق الأصغر لحسن البنا، أن يعيش بيننا إلى اليوم، لكان له مع عبارته عن جماعة الإخوان التي أسسها شقيقه شأن آخر!
لقد عاش إلى أن تجاوز الثمانين، ولكنه كان قبل أن يرحل منذ بضع سنوات، قد أطلق على الجماعة عبارة تلخص تجربته معها ثم رصده لمسيرتها، وهي عبارة ظلت وسوف تبقى أصدق العبارات في وصف العقل الذي تعمل به جماعة حسن البنا!
لو عاش لكان قد سجل عبارته في قائمة الملكية الفكرية التي ترد الأشياء إلى أصحابها، ولا تجيز الحديث عنها إلا بنسبتها إلى مالكها، لا لشيء، إلا لأنها أشياء متفردة، ومتميزة، وتحمل بصمات صاحبها فلا تتشابه مع غيرها من البصمات في كل الظروف!
قال: هذه جماعة لا تتعلم ولا تنسى!
وإذا كان البنا قد أسس جماعته عام 1928، فمعنى هذا أنها ستبلغ مائة سنة عند نهاية هذا العقد الذي نقف على أوله، ولكن المعنى الأهم أن هذا القرن من الزمان سيؤرخ لمسيرة من الأزمات والمحن، وسيقول القرن وهو يؤرخ لها عند نهايته، إنها عاشت لا ترغب في أن تتعلم، وإنها مضت لا تريد أن تنسى، وإن هذا تحديداً هو سبب أزماتها المتلاحقة، أزمة وراء أزمة، بقدر ما هو مرجع المحن في طريقها محنة من وراء محنة!
ماذا عليها لو قررت أن تتعلم وتنسى، فتوفر على نفسها وعلى عواصم العرب هذا النزيف الذي لا يتوقف من الجهد، والوقت، والمال، والأرواح؟! وقد كان الظن في البداية أن عبارته كانت تقصد الجماعة الأم في القاهرة، وأن الفرع في غير القاهرة قد عالج نفسه من أمراض الأم، وبالذات مرض عدم التعلم، ومرض عدم القدرة على النسيان، ولكن تبين أن الظن ليس في مكانه، وأن الفرع كالأصل في الآفة التي رصدها شقيق مؤسس الجماعة، وتمنى لو أنها صادفت دواءها الشافي!
وليست حركة النهضة الإسلامية في تونس سوى أقرب الفروع إلى ساحة الأحداث هذه الأيام، وليس الصخب الذي أثارته حولها منذ فازت بأكثرية مقاعد البرلمان في الانتخابات الأخيرة، سوى شاهد جديد على أن المرض قد انتقل في الجينات من الأصل إلى الفرع، وأن الفرع غير قادر على مداواة المرض، ولا على مكافحة الآفة، فكأنهما... المرض والآفة... من لوازم الانتساب إلى جماعة البنا، ومن مقتضيات أن يكون الفكر في الفرع من بين بنات أفكار الأصل، أو يكون قد رضع من أفكار الأم!
إن الحركة التي يرأسها راشد الغنوشي تملك الأكثرية في مقاعد المجلس النيابي التونسي، ولكنها تتصرف كأنها صاحبة أغلبية تعطيها حق اتخاذ القرارات من دون العودة إلى شركاء الوطن، وهي بالتأكيد تعرف أن الأكثرية التي تتمتع بها في مقاعد البرلمان لا تمنحها هذا الحق، ولا تعطيها حق تقديم المغالبة على المشاركة، ولا تعطيها من الحقوق إلا كما تعطي سواها من الأحزاب والكُتل السياسية التي يتشكل منها برلمان الشعب!
ولأن حركة النهضة فرع، ولأن جماعة البنا في القاهرة كانت هي الأم، فلقد كان الأمل أن تتعظ الحركة من تجربة الجماعة، وأن تنظر ماذا جرى لها في قاهرة المعز، فتتفادى السير في ذات الطريق، حتى لا تكون الخاتمة واحدة، وحتى لا تتكرر القصة ذاتها، فيخرج عليها الناخب نفسه الذي كان قد منحها صوته في الصندوق واختارها ومنحها الأكثرية!
كان هذا هو الأمل، لولا أن عبارة البنا الأصغر تبدو في كل مرة كأنها قدر مكتوب على الجماعة أصلاً وفرعاً، أو كأنها طبيعة مخلوقة بها مهما تطبعت بغيرها!
تتصرف الحركة في تونس على أنها صاحبة البرلمان، وأنها تستطيع أن تمرر فيه ما تشاء من مشروعات القوانين، من دون الالتفات إلى أن لها شركاء في قاعات النقاشات وفي مضابط الجلسات. ويتصرف رئيسها الغنوشي، من موقعه على رأس المجلس، كأنه يملك في يده توكيلاً عن 217 نائباً، هُم مجمل أعضاء البرلمان. بل إنه يتحرك ويتحدث خارج البلاد كأنه يملك هذا التوكيل عن كل مواطن تونسي، وليس عن أعضاء المجلس النيابي وحدهم، من دون أن ينتبه إلى أنه يمضي في طريق المغالبة الذي مضت فيه جماعة البنا في القاهرة من قبل، فكان ما كان مما نعرفه ويعرفه كل متابع لما جرى!
سبيل المغالبة لا المشاركة، هو الذي سعت فيه جماعة الإخوان الأم، وهو الذي جعلها ترى نفسها طوال عام كامل حكمت فيه، ولا ترى غيرها إلى جوارها ممن كانوا يشاركونها أرجاء الوطن، فكان ما كان مما نذكره، وكان ما كان مما أظهرها أمام الرأي العام في بلدها جماعة لا ترغب في أن تتعلم وقت أن كانت في مقاعد الحكم، ولا تريد أن تنسى بعد أن غادرت مقاعد الحكم!
وهذا ما لا يريد الغنوشي أن يقرأه ولا أن يستوعبه، رغم أنه في الفترة التالية مباشرة لسقوط الجماعة في القاهرة، كان على استحياء قد أظهر رغبة في المشاركة مع باقي تيارات السياسة في تونس، وكان قد أبدى ما يشبه النفور من مبدأ المغالبة في الحكم!
ولكنه سرعان ما نكص على عقبيه، فراح يزور تركيا ويلتقي رئيسها بغير أن يكون برلمانه الذي يرأسه على دراية بالزيارة، ولا بالطبع بجدول أعمالها، وبغير أن تكون الرئاسة في بلاده على علم مسبق بها ولا بمسبباتها، التي لا بد أن تكون معلومة مسبقاً لدى كل تونسي بالضرورة!
وكان هذا مما أثار عليه الدنيا في تونس، ولم يكن المتحدث باسم الحركة مقنعاً حين قال إن الزيارة كانت مقررة في وقت سابق على وجود الغنوشي فوق قمة البرلمان، وأنه قام بها بصفة شخصية. لم يكن هذا كلاماً مقنعاً لأنه لا يقال لعقلاء!
وما كاد غبار العاصفة الزيارة يهدأ قليلاً، حتى كان الرجل قد راح يثير غباراً في سماء أخرى، عندما أبدى انحيازاً إلى حكومة الوفاق في العاصمة الليبية طرابلس، فأقحم بلده في صراع داخلي ليبي، بدلاً من أن يكون يداً في جمع طرفي الصراع على طاولة واحدة، لعل هذه المعضلة في ليبيا تجد حلها الذي يحفظ ثروات الليبيين لهم، ولا يبددها على إردوغان وميليشياته!
وفي لحظة التقت سبعة أحزاب على هدف واحد هو مساءلة رئيس حركة النهضة، والدعوة إلى سحب الثقة منه في رئاسة البرلمان، واشتدت المواجهة بين الحزب الدستوري الحر وبين الحركة، ورفعت عبير موسي رئيسة الحزب شعاراً يقول: ماضون حتى النهاية في كشف الحقيقة وفرز الساحة في الحياه السياسية!
ليت الغنوشي يلتفت إلى أن المغالبة لن تفيد، وأن المشاركة هي الحل، وأن وجوده على رأس المجلس لا يمنحه شيكاً على بياض في يده، يسحب من الرصيد المتاح فيه كما يحب، وأن تونس له كما هي لسواه ممن يريدونها خضراء على نحو ما عاشت واشتهرت!