نيال فيرغسون
كاتب من خدمة بلومبيرغ. أستاذ للتاريخ المعاصر في جامعة ستانفورد الأميركية
TT

أميركا: عام 2020 ليس عام 1968

تتزايد حصيلة الوفيات في صفوف الأميركيين، في الوقت الذي يخشى رئيس يفتقد الشعبية على فرص إعادة انتخابه. وبينما ترسل الولايات المتحدة برجال إلى الفضاء، على الأرض يعاني الاقتصاد من مشكلات، وتتفاقم التوترات العنصرية، لتتحول إلى مسيرات ومظاهرات وأعمال سلب ونهب ومواجهات عنيفة مع الشرطة داخل مدن بمختلف أرجاء البلاد. الأمر الذي يفاقم بدوره حالة الاستقطاب السياسي ويوسع الفجوة بين الأجيال.
وقد أشار كثير من الكُتاب، منهم ديفيد فروم، وجيمس فالوز، وماكس بوت، وجوليان زيليزر، وزكاري كارابيل، إلى أن العام 2020 يشبه إلى حد بعيد 1968، بحيث يبدو وباء «كوفيد - 19» بديلاً لحرب فيتنام، ويقف دونالد ترمب محل ليندون جونسون، ومقابل رحلة «أبولو 8» الناجحة حول القمر نجد رحلة «كرو دراغون» عبر «سبيس إكس» إلى المحطة الفضائية. ومقابل واشنطن وشيكاغو وكثير من المدن الأخرى عام 1968، نجد اليوم مينيابوليس وأتلانتا وكثيراً من المدن الأخرى التي برزت أسماؤها خلال الأسابيع القليلة الماضية.
حتى فيما يخص الوباء الذي نتعامل معه اليوم، كان لديهم عام 1968 وباء أيضاً؛ إنفلونزا هونغ كونغ، التي تسببت في نهاية الأمر في وفاة أكثر من 100000 شخص داخل الولايات المتحدة ومليون حول العالم.
منذ أن أقدم ديريك شوفين على قتل جورج فلويد في الشارع خارج متجر «كب فودز» في مينيابوليس ليلة الاثنين، 25 مايو (أيار)، اشتعلت مظاهرات وأعمال شغب داخل العشرات من المدن الأميركية. وفرض حظر التجول أكثر من أي عام مضى منذ عام 1968 ـ لكن السؤال؛ هل هذه المقارنة صائبة؟
في الواقع، لقد أصبح عقد المقارنات مع عام 1968 من الظواهر المتكررة، ويقصد منه إطلاق رسالة مفادها أن الوضع شديد السوء. الحقيقة أنه على مدار الألفية الأخيرة، لاحظ مؤرخون أن الأوبئة بمقدورها زعزعة استقرار المجتمعات التي تضربها. على سبيل المثال، كتب ثوقيديدس عن الطاعون الأثيني عام 430 قبل الميلاد: «كانت الكارثة كبرى لدرجة أن الرجال، ولأنهم لم يعودوا يعرفون ماذا سيحدث لهم لاحقاً، أصبحوا غير مبالين بأي قاعدة دينية أو قانونية».
أيضاً تسبب الوباءان الكبيران اللذان ضربا الإمبراطورية الرومانية؛ الطاعون الأنطوني (165 - 180 بعد الميلاد) ووباء جستيان (542 بعد الميلاد)، في إلحاق الضعف بهياكل الحكم الرومانية، ما سمح لغزاة همج من تحقيق انتصارات مهمة على حساب الإمبراطورية.
وأشارت دراسة حديثة حول إنجلترا بعد الموت الأسود الذي ضرب البلاد خلال أربعينات القرن الرابع عشر، إلى أن الجهود التي بذلتها طبقة ملاك الأراضي من أجل مواجهة تداعيات نقص العمالة المزمن تسببت في تفاقم توترات، أدت نهاية الأمر إلى اشتعال ثورة المزارعين عام 1381.
اليوم، تسبب تفشي وباء «كوفيد - 19» من الصين إلى باقي أرجاء العالم، والاستجابة الرديئة بوجه عام من جانب السلطات الأميركية للوباء، في خلق الظروف المثالية أمام اشتعال اضطرابات وقلاقل بالمناطق الحضرية. والملاحظ أن الوباء كان له تأثير أكبر على الأقليات، خاصة الأميركيين من أصول أفريقية. داخل الولايات المتحدة، مثلما الحال مع المملكة المتحدة، نجد أن الأشخاص الملونين أكثر احتمالاً عن البيض للعمل في مهن تتطلب قدراً بسيطاً من المهارة داخل بيئات ناقلة للعدوى، ويعيشون داخل أماكن مكدسة ويعانون مشكلات صحية، مثل السمنة والسكري. علاوة على ذلك، تضرر الأميركيون من أصول أفريقية من تداعيات إجراءات الإغلاق أكثر من مواطنيهم البيض. في الحقيقة، لسنا في حاجة للعودة إلى 1968 كي نشرح ما يجري في 2020.
وباعتباري مهاجراً في منتصف العمر، أنتمي إلى الشريحة العليا من الطبقة الوسطى، فإنني لا أبدو الشخص المناسب للحديث باستفاضة عن سياسات العرق داخل الولايات المتحدة. لذلك، لجأت إلى صديق أميركي من أصول أفريقية، الخبير الاقتصادي رولاند فرير الذي أعرفه منذ أن كنّا زميلين في جامعة هارفارد
عام، 2016. نشر فرير ورقة بحثية رائعة، لكنها مثيرة للجدل دارت حول فكرة أن الشرطة لم تستخدم العنف الفتاك على نحو غير متناسب ضد أصحاب البشرة الداكنة، لكنها كانت أكثر احتمالاً لاستخدام القوة غير الفتاكة ضدهم. (شكّل إطلاق النار أكثر عن 90 في المائة من الحوادث المميتة). ونشرت الأكاديمية الوطنية للعلوم ورقة بحثية العام الماضي دعمت بقوة الفكرة التي طرحها فرير.
اليوم، لدى فرير ورقة جديدة لم تنشر بعد حول التأثيرات السلبية للتحقيقات حول حوادث إطلاق النار من جانب الشرطة. وطلبت من فرير شرح وجهة نظره، فقال: «إذا كان لدينا حادث إطلاق نار من جانب الشرطة ينتشر بقوة عبر شبكة الإنترنت، لكن لا يجري تحقيق بشأنه، فإن شيئاً لا يتغير، وتبقى مستويات نشاط الشرطة والجريمة كما هي تقريباً. أما عندما تنتشر أنباء حادث إطلاق نار من جانب الشرطة، ويجري تحقيق حوله، فيتراجع نشاط الشرطة على نحو كبير، وترتفع معدلات الجريمة بصورة هائلة».
داخل مدن «بالتيمور، وشيكاغو، وسنسيناتي، وفيرغسون، وميزوري، وريفرسايد، وكاليفورنيا» فقط أدَّى ذلك إلى تفاقم حوادث القتل، وبلغت الزيادة نحو 900 شخصاً خلال الشهور الـ24 التالية، وكان 80 في المائة من القتلى من أصحاب البشرة السمراء، ومتوسط أعمارهم 28 عاماً.
ويبدو الأمر معضلة حقيقية، فأنت مدان إذا لم تجرِ تحقيقاً في الحوادث «التي تنتشر أخبارها على نطاق واسع»، وتصبح في وضع أسوأ إذا أجريت تحقيقاً.
والآن، كيف يفسر فرير المظاهرات الحالية؟ قال فرير في حديثه معي: «لقد فاض بالناس الكيل، ويشعرون بإحباط إزاء التفاوتات التي يرونها في المخرجات التعليمية، ويشعرون كذلك بخيبة الأمل إزاء التفاوتات التي يرونها في نظام العدالة الجنائية، وأيضاً فيما يخص التفاوتات العرقية في العمر المتوقع. ونحن جميعاً نتحمل اللوم عن ذلك، فقد جرى ذلك تحت سمعنا وأبصارنا». وعندما تضيف إلى ذلك حقيقة أن تداعيات «كوفيد - 19» كان تأثيرها أكبر على نحو لافت على أبناء البشرة الداكنة، «ستجد أن الناس قد طفح بهم الكيل».
من ناحية أخرى، فإنه عندما وصف نفسه بأنه «رئيس دولة القانون والنظام» داخل حديقة البيت الأبيض، الاثنين الماضي، فإنه كان يطلق بذلك (أو بالأحرى كاتب خطاباته) أصداء الشعار الذي رفعه ريتشارد نيكسون خلال حملته الانتخابية الناجحة عام 1968. والملاحظ أن الوباء والركود ضربا الأميركيين في ظل رئاسته، تماماً مثلما تفاقمت حرب فيتنام في ظل رئاسة ليندون جونسون، إلا أن وباءً داخل الوطن يختلف كثيراً عن حرب تجري في بلاد قاصية، كانت حتى منتصف عام 1968 تحظى بدعم ما يزيد عن ثلث الأميركيين.
واليوم، ولدى مقارنتها بالعواقب الاقتصادية المدمرة لعمليات الإغلاق، تبدو المؤشرات الأولى على التضخم التي ظهرت عام 1968، بسيطة. كما أن الناخبين اليوم يختلفون كثيراً عن نظرائهم عام 1968، فهم اليوم أكبر سناً، وأكثر تنوعاً من الناحية العرقية نتيجة الهجرة وتباينات معدلات المواليد. وعام 1968، لم تغطِ وسائل الإعلام التقليدية المظاهرات العنيفة على نحو يشي بالتعاطف. وعلى جميع هذه الأصعدة، لا بد أن فرص ترمب في الفوز بإعادة انتخابه تبدو أسوأ عن فرص جونسون.
وفي 31 مارس (آذار) 1968، أعلن جونسون عبر شاشات التلفزيون أنه لن يسعى للفوز بفترة رئاسة ثانية، لأن «هناك انقساماً داخل البيت الأميركي الآن». عليكم ألا تنتظروا مثل هذا الاستسلام من جانب دونالد ترمب، فانقسام البيت الأميركي هو تحديداً ما يمنحه فرصة الفوز بـ4 سنوات أخرى داخل البيت الأبيض.
* بالاتفاق مع «بلومبرغ»