حينما نلاحظ ذبابة تطير بعشوائية في زجاجة مغلقة، يبدد ذلك تركيزنا ويشتت أفكارنا. ننشغل بمعاناة الذبابة عن معاناتنا، وكأن حركتها المستمرة وصوتها المزعج يحملان دعوة صامتة للتدخل. تحاول عبثاً إحداث ضجيج للخروج من عنق الزجاجة، وكأنها تُذكّرنا بأن لا شيء يتغير بالصمت.
مشهد الذبابة في الزجاجة يحمل في طياته رمزية عميقة. لو أنها سكنت، لما لاحظنا وجودها أصلاً. ولو أنها حاولت ثم يئست، ربما لم يكترث بها أحد. لكن الضجيج المستمر هو ما يلفت الانتباه ويوقظ فينا الفضول والمسؤولية. هناك أشخاص، مثل تلك الذبابة، يثيرون انتباهنا فقط عندما يحدثون ضجيجاً، ليدفعونا للمساعدة أو المواجهة... أو التأمل.
بعض المقهورين تحت إمرة قيادي قاسٍ لن يهدأ لهم بال حتى تأتيهم انفراجة الخلاص، وبعض الصراخ حقاً على قدر الألم. حركة الذباب المستمرة في زجاجة مغلقة تعكس إيمانها بأن الاستسلام ليس خياراً، بينما تأملها يُذكرنا بأن المحاولات المتكررة قد تكون الطريق الوحيد للنجاة.
وعندما نجد أنفسنا محبوسين في غرفة اجتماعات، مع بشر مزعجين، فإننا نشهد أحياناً ظاهرة عجيبة وهي: تسلط الأكثر شراسة على آخرين لإسكاتهم. وكم من جريء قال ما لا يجرؤ على قوله من يدير دفة الاجتماع، ليُسكِت من هو أكثر صخباً منه. وهو مؤشر على حاجتنا لشتى أنواع الناس.
تتحرك الذبابة داخل الزجاجة بلا كلل، لتصبح رمزاً للنشاط حتى في بيئات مغلقة. وكأنها تهمس لنا بأن التفكير خارج الصندوق هو السبيل للنجاة، وإن بدا الأفق محدوداً.
ما نعتبره إزعاجاً قد يكون أداة ضرورية للفت نظرنا إلى جوانب نتجاهلها أو نتجنب مواجهتها. وما يبدو تافهاً في بدايته قد يحمل أسباباً عميقة تستحق النظر.
ذلك الصوت الذي نراه مزعجاً قد يكون الوحيد الذي يجرؤ على طرح لب المشكلة. وجود «ذبابة» في الزجاجة قد يكون بداية لتحفيز نسائم التغيير الإيجابي، الذي ينعكس على الجميع إذا أُحسن التعامل معه.
الذبابة ليست مجرد حشرة مزعجة، بل نموذجٌ مصغرٌ يعكس كيف يمكن للتفاصيل الصغيرة، مهما بدت تافهة، أن تحمل في طياتها مفتاحاً لتغيير كبير... إذا أعدنا النظر فيما وراء الضجيج.