سوسن الأبطح
صحافية لبنانية، وأستاذة جامعية. عملت في العديد من المطبوعات، قبل أن تنضم إلى أسرة «الشرق الأوسط» بدءاً من عام 1988، كمراسلة ثقافية من باريس، ثم التحقت بمكتب الجريدة في بيروت عند افتتاحه عام 1995. تكتب بشكل رئيسي في المجال الثقافي والنقدي. حائزة درجة الدكتورة في «الفكر الإسلامي» من جامعة «السوربون الثالثة». أستاذة في «الجامعة اللبنانية»، قسم اللغة العربية، عام 2001، ولها دراسات وأبحاث عدة، في المجالين الأدبي والفكري.
TT

استغلال محمود درويش

غريبة في أسلوبها وفي توقيت نشرها، رغم أنها مكتوبة منذ عام 2012، تلك المقالة التي نشرها سليم بركات عن محمود درويش، ضمن كتابه الجديد «لوعة كالرياضيات، وحنين كالهندسة» الصادر عن «المؤسسة العربية للدراسات والنشر».
ومع الاعتراف بموهبة الشاعر والأديب سليم بركات، وهو بالتأكيد ما حمل فذاً بمستوى محمود درويش على الاهتمام به، فإن تصوير نفسه قرين الشاعر الكبير، وتوأم روحه ومكمن أسراره واعترافاته، مستفيداً من غيابه، أمر آخر.
جميعنا يعرف من كان يحيط بدرويش، ومن هم المقربون منه، ومن لازمه ورافقه، والأجدر بالتحدث عن خفاياه الحميمة، ومع ذلك لا يفعلون. أما بركات الذي سمحت له الفرصة بأن يلتقيه بانقطاع سنوات على مائدة من الأسماك وثمار البحر، أو حول أمسية شعرية، ولو كانت الاتصالات بينهما لم تنقطع حسب ما يقول، فهذا كله لا يعطي الشاعر السوري الحق في أن يصف نفسه بأنه كان بمثابة الابن لصاحب «لا تعتذر عما فعلت». فتلك مكانة يحددها درويش، وطالما أنه لم يفعل، فالأمر ينتهي هنا.
الادعاءات في المقالة يجرُّ بعضها بعضاً، فالشعراء يحدث أن يكتبوا القصائد في شجرة أو مدينة أو في مديح بعضهم، وهي دلالة كرم ورحابة. و«ليس للكردي إلا الريح» التي نظمها درويش وقرأها في أمسيات بسليم بركات، لا تعطيه الحق في وصف خلجات نبض قائلها، أو أن يحصي نبضات قلبه.
كان لشاعر فلسطين صداقات كثيرة. ومنذ وفاته، كثر ممن كانوا يلتقونه، باتوا يعتبرون أنفسهم حفظة أسراره، وهذا كلام صار ممجوجاً، حتى أن الخلَّص يخجلون اليوم، ويدارون ما يعرفون، كي لا يُتَّهموا بمشاركتهم في حفل التسلق القبيح.
سليم بركات تفوَّق بأشواط على من راهنوا على استغلال تركة الشاعر الأدبية بعد موته. يثير سخرية حين يكتب: «أنا الذي أعرف الكثير عنه مما لا يعرفه سوايَ». لم يعلمنا كيف تحقق من الأمر، مع أنه يعرف أن عدد من يدَّعون صداقة الراحل يفوق ما يحتمله أي إنسان عادي عاطل عن العمل.
بركات له مكانته الأدبية، لهذا فجَّر غضباً، وأثار ردود فعل. أحد العارفين الحقيقيين الصامتين بدرويش علَّق بأسف: «لولا درويش لما كان سليم».
من تلميذ يحلم بأن يبلغ قامة شاعر فلسطين، ويكتب رباعياته على أغلفة كتبه المدرسية، ولا يخطر له أنه سيلتقيه يوماً، وحين يصادفه يصاب بحرج لشدة تأثره، يتحول بركات إلى حامل سرٍّ عظيم بحجم أبوة الشاعر الكبير لابنة غير شرعية. هكذا بعفوية أخبره على ما يروي، من دون أن يحدد له من هي المرأة المتزوجة. لمزيد من إثارة الفضول، تعلمنا المقالة أنه لم يلتقِ الابنة، وليس متحمساً لهذه الأبوة.
من يريد أن يعرف شيئاً عن محمود درويش، ما عليه سوى العودة إلى دواوينه، وليس إلى الباحثين عن ضوضاء. درويش شاعر كشف. اعترافي في قصائده حدَّ سؤالك، إذا ما كان الشعر يتسع لكل هذه التفاصيل بالفعل. ولولا عبقرية استثنائية، لما أمكن له أن يطوّع الوزن، ويصقل الموسيقى، ويجعل النغم يتسع لسيرته الحياتية بأدق حميمياتها، تقرأها وكأنما أنت تتابع حياة دفّاقة؛ لكنها ببعد هلامي، تطير ولا تمشي على الأرض.
قصيدة «لاعب النرد» وحدها، تريك كم كان صاحبها شفافاً في شعره. تعود إليها فتعرف تاريخ عائلته، وأنه ولد إلى جانب بئر و«شجرات ثلاث وحيدات كالراهبات» بلا زَفّة وبلا قابلة، وسمي باسمه مصادفة، وورث خللاً في الشرايين وضغط الدم، وكذلك الخجل، وتقليد شرب البابونج الساخن، وقلة الكلام كسلاً، والفشل في الغناء، إلى أن يفاجئك بأنه ورث «شامة في أشد مواضع جسدي سرّية». يحدثك عن أخته التي صرخت وماتت، وعن أنه بقي حياً صدفة، بعد أن تأخر عن باص المدرسة الذي تعرض لحادث مميت.
هل تريد أن تعرف أكثر؟ اذهب إلى «الجدارية» واقرأ كيف رسم صورة لقبره، وأعطاك مقاييس قامته: «مِتْرانِ من هذا التراب سيكفيان الآن. لي متر و75 سنتيمتراً، والباقي لزهر فوضوي اللون». وله أيضاً علامة أخرى فارقة: «جرح طفيف في ذراع الحاضر العبثي». هل تريد أن تعرف ما هي طريقته الخاصة في «البصبصة» على النساء؟ فتش عنها «في حضرة الغياب» ستذهل أكثر، وهو يصف كيف ينظر من طرف عينه، وكيف تطير أخيلته. هناك كذلك وصف دقيق لطريقته الخاصة في تلييف جسده في «البانيو». طرائف صاحب «الجدارية» مذهلة.
ما كتبه بركات عن ابنة مجهولة للشاعر ليس مستحيلاً. وهو أمر يحدث؛ لكنه فجّر القنبلة في سياق نصي لا يطمئن إلى اتزان، وحيادية. فثمة نزعة علوية، وادعاءات شخصية، ونرجسية مقلقة، تستدعي السؤال إن كان الشاعر السوري في مغتربه السويدي الهادئ والمنعزل، أكثر مما ينبغي، قد أغرته إثارة زوابع للتسلية وتزجية الوقت.
أعترف بأن بركات رغم أنه أورد معلوماته بطريقة تدعو إلى الشك أكثر مما تحض على التصديق، دفعني لأنْ أعيد قراءة درويش من جديد بحثاً عن قرينة؛ لكنني لم أعثر أبداً على أي تلميح أو رائحة أبوة. فحين يكتب تلميذ مثله عن أستاذه بأنه «جاهدَ كي لا يتأثر» به (ويقصد درويش طبعاً)، فعندها عليك أن تضع ألف علامة استفهام، على بقية ما ورد في المقال.
قليل من التواضع ينعش المصداقية يا سليم.