حنا صالح
صحافي وكاتب لبناني. رئيس تحرير جريدة «النداء» اليومية (1975 - 1985). مؤسس ورئيس مجلس إدارة ومدير عام راديو «صوت الشعب» (1986 - 1994). مؤسس ورئيس مجلس إدارة ومدير عام تلفزيون «الجديد» (1990 - 1994). مؤسس ومدير عام «دلتا برودكشن» لخدمات الأخبار والإنتاج المرئي (2006 - 2017). كاتب في «الشرق الأوسط».
TT

في صوابية شعار «كلن يعني كلن» من عدمها!

يثير كثيراً من الجدل شعار «كلن يعني كلن» الذي رفعته «ثورة تشرين» بوجه الطبقة السياسية اللبنانية التي اتهمها المتظاهرون بالتسبب في إفلاس البلد بعد نهبه وتجويع أهله. جدل قديم جديد، فلطالما عد الثنائي القائد هذه الأيام أن لا علاقة له بهذا الأمر. فوقف «حزب الله» خلف عنوان «المقاومة» معلناً أنه يملك براءة ذمة! وقفز القصر فوق هذا الشعار ليعلن أن التيار هو صاحب راية مكافحة الفساد والإصلاح، وبالتالي البراءة مضمونة (...) وعلى المنوال نفسه، نسج حزب «القوات اللبنانية»، وقدم مطالعات عن أداء وزرائه ونوابه. وفي السياق ذاته، تتالت المواقف التي تبرئ ساحة «حركة أمل».
بعض الجهات التي تحتجز اسم اليسار، المدافعة عن نظام البراميل في سوريا، وعن حرب ميليشيا «حزب الله» على الشعب السوري، معززة من تركيبات تم تحضيرها غب الطلب، سعت خلال التحرك الشعبي العاصف إلى تجويف شعار الثورة وحرفه عن مضمونه. وشجع هذا المنحى «حزب الله» الذي أراد كذلك تحييد المجلس النيابي. استفادت هذه الجماعات من ممارسة إجرامية اتبعها الكارتل المصرفي الذي احتجز تعسفاً ودائع المواطنين، لترفع شعار: يسقط حكم المصرف! وعملت من دون كلل على محاولة اختزال الشعار الذي يُحمل الطبقة السياسية المسؤولية عن الانهيار، وحصر المسؤولية بالمصارف التي تنكرت لموجبات الصناعة المصرفية، ومسؤوليتها في حماية الودائع، وتحولت إلى ممارسة الربا، ما سرع الإفلاس!
في 17 أكتوبر (تشرين الأول)، يوم فاضت الكأس، وخرج ملايين اللبنانيين إلى الساحات، متجاوزين الانقسامات الطائفية والمناطقية وقد طَووا صفحات الحرب الأهلية الدامية، رفع تحركهم في البداية قضايا مطلبية متأتية عن تفاقم الضرائب، وتراجع القدرة الشرائية، واتساع البطالة؛ قالوا: لنا حقوق نريدها، أهدرتها هذه الطبقة السياسية. فكان شعار الثورة «كلن يعني كلن» مسؤول عن الأزمة، ولا ثقة بأي من مكونات تحالف الأحزاب الطائفية الممسكة بزمام الحكم ومفاصل إدارة البلد.
لم يكن معروفاً بعد من العامة حجم الانهيار العام، رغم الأرقام المعلنة عن أن الديْن تجاوز 84 مليار دولار؛ أي ما يزيد على 170 في المائة من حجم الناتج الوطني المصرح به. كانت حكومة «الوحدة الوطنية» تبحث في خطط تنسجم مع متطلبات مؤتمر «سيدر»، وهاجس الطبقة السياسية الحصول على مزيد من الديون التي ارتبطت بمشاريع من شأنها أن تضخم حسابات المحظوظين، ولا تمس الاقتصاد الموازي الذي يوفر القسم الرئيسي من تمويل الدويلة، بعدما شح المال «الحلال» من إيران! لكن الاهتزاز السريع في القطاع المصرفي بدأ بالبروز، فتصدع التحالف الحاكم، رغم الخط الأحمر الذي وضعه حسن نصر الله على استقالة الحكومة، فقفز حزب القوات من السفينة قبل الغرق، وأعلن الحريري أن استقالة الحكومة هي استجابة لطلب الساحات.
توقف المصارف عن الدفع للمودعين وإلى أصحاب الحسابات كشف كل شيء. فوق الدّين العام الذي لا تدخل فيه كثير من المتطلبات المستحقة على الدولة، ظهر أن الكارتل المصرفي قامر بودائع المواطنين، وجنى الفوائد الطائلة، وأقدم المصرف المركزي على مخالفة قانون النقد والتسليف في توفير تمويل للحكومات المتعاقبة، والذريعة أن طلبات التمويل تضمنتها قوانين الموازنات، وأن الحكومات كانت تعد على الدوام بإقرار برامج إصلاحية! حتماً كانوا يعلمون بحجم الانهيار، وكان تصنيف لبنان الائتماني يتراجع بشكل دراماتيكي، ورغم ذلك دأب مصرف لبنان، مع السلطة السياسية، على توجيه رسائل التطمين: الليرة بخير، وتالياً ممارسة خداع عشرات ألوف اللبنانيين العاملين في الخارج، لنقل أموالهم مقابل فوائد سخية!
الهدر طال كل شيء، والفساد كان مشرعاً بالقانون، كما يقول الرئيس السابق فؤاد السنيورة. كانت الموازنات العامة مفخخة بالتمويل للكهرباء، وبواخر إنتاج الطاقة، وإنشاء السدود، ودعم القمح، وأدوية الأمراض المستعصية، وكل مشتقات المحروقات، إلى فوائد الدين والرواتب والنفقات غير المبررة لجمعيات وهيئات أنشأها كل مسؤول لأسرته! وتبين أنه في السنوات الخمس الأخيرة كان تهريب السلع المدعومة إلى سوريا يكبد مصرف لبنان 4 مليارات دولار سنوياً، تذهب إلى دعم ميزان مدفوعات النظام السوري!
كل هذه الموازنات، وما فيها من مزاريب هدر، أقرتها بالإجماع حكومات كانت على العموم حكومات «وحدة وطنية»، وصادقت عليها المجالس النيابية تباعاً منذ عام 1992. وما من مرة كان هناك أي سعي إلى تغيير المسار. اتسع حجم الاقتصاد الأسود الذي يقدر بنحو 35 في المائة من مجمل الاقتصاد، وانتعش الاقتصاد الموازي لدويلة «حزب الله»، فحُرمت الخزينة من جزء كبير من العائدات. ووضعت الطبقة السياسية، مباشرة أو عبر وسائط، اليد على الأملاك البحرية والنهرية والمشاعات، فخسرت الموازنة مئات ملايين الدولارات سنوياً. وامتنعت الحكومات عن أي خطوة إصلاحية، لا في الجمارك ولا الكهرباء ولا الهاتف. رتبت الكهرباء نحو 48 مليار دولار ديْن، بينها 35 ملياراً للفترة بين عامي 2008 و2019، حيث باتت وزارة الطاقة حصة دائمة للتيار العوني، وارتفع الدّين العام بعد عام 2010 بأكثر من 50 في المائة.
شعار «كلن يعني كلن» يعني كل الأحزاب والقوى الطائفية، هم كل المجالس النيابية المتعاقبة التي تشاركت في السياسات التي أوصلت البلد إلى الانهيار. وحتى لا يكون هناك لبس، فإن «حزب الله» موجود في المجلس النيابي منذ عام 1996، فيما التيار العوني والقوات منذ عام 2005. ولا مجال للشك في أنهم يوم توافقوا على التسوية في عام 2016، وأوصلوا مرشح «حزب الله» إلى الرئاسة، كانوا مدركين حجم الانهيار. ويستحيل أن يكون المصرف المركزي لم يحصل على الضوء الأخضر قبل إقدامه على تلك الهندسات المالية التي بموجبها تم توزيع المليارات على الكارتل المصرفي، فأخر الإفلاسات، لكنها دفعت مؤسسات التصنيف العالمية إلى قرع جرس الإنذار. والطريف أيضاً أن آخر حكومات الحريري سددت سندات يوروبوند بقيمة 7 مليارات و800 مليون دولار والبلد مفلس! فيما كان ينبغي، وهناك بعض القدرة، طرح حتمية جدولة الديون!
«كلن يعني كلن» هذه بعض ممارساتهم، وهم في المفاصل الرئيسية تناوبوا على الاستثمار في التحريض الطائفي، ووضع البلد على حافة الاقتتال الأهلي حماية لتسلطهم ولتأبيد سلطانهم. وليس أمراً بسيطاً أن يتمسك بالشعار أكثرية وازنة من المواطنين، حملت إليهم «ثورة تشرين» الهواء النظيف، وبات يتوقف على بلورة ميزان القوى كل المسار اللاحق، ويؤمل معه فتح الباب أمام المحاسبة، فتتسع بقعة الضوء لتشمل كل لبنان!