توفيق السيف
كاتب سعودي حاصل على الدكتوراه في علم السياسة. مهتم بالتنمية السياسية، والفلسفة السياسية، وتجديد الفكر الديني، وحقوق الإنسان. ألف العديد من الكتب منها: «نظرية السلطة في الفقه الشيعي»، و«حدود الديمقراطية الدينية»، و«سجالات الدين والتغيير في المجتمع السعودي»، و«عصر التحولات».
TT

ركاب الدرجة السياحية

معظمُ الناس يختارون الدرجة السياحية في الطائرات، لأنَّهم لا يملكون المالَ الكافي لشراء تذاكر الدرجة الأولى، أو لعلَّهم غير مقتنعين بدفع التكلفة الإضافية. ربما يقول أحدنا: لماذا أدفع نصف راتبي كي أسافر في الدرجة الأولى؟ ولعله محق. فالعاقل لا ينفق أسبوعين من عمره يعمل ثماني ساعات يومياً، فإذا تسلَّم أجرتها، أنفقها على كرسي مريح لمدة ساعتين أو ثلاث.
لكن المسألة ليست هكذا. المثال المذكور عن ركاب الطائرة قد يكون مضللاً. دعنا نبدأ من قصة «الميدوقراطية» التي شرحها زميلنا د. مأمون فندي، في هذه الصحيفة يوم الاثنين الماضي. فهو يطرح سؤالاً جدياً، قد يكون في الحقيقة الجواب المعاصر عن سؤال: «لماذا تأخر المسلمون وتقدم غيرهم» الذي طرحه المرحوم شكيب أرسلان قبل مائة عام.
خلاصة ما توصل إليه الزميل مأمون هو أننا رضينا - أو ربما جرى إقناعنا - بأن الدرجة الثانية هي الموقع الممكن لنا في هذا العالم، أو لعلها المكان الذي نستحقه.
ماذا يعني هذا الكلام؟
خذ هذه الأمثلة: نسمع أحياناً دعوات لتطوير تعليمنا، فنرد عليها قائلين: صحيح، ولكننا أفضل من البلد الفلاني في جودة المناهج. وقد نسمع من يطالبنا بإعطاء أولوية للبحث العلمي، فنرد عليه: موافقون، ولكن لدينا أولويات أخرى مثل تطوير التعليم. أو نتحدث عن توطين التقنية والتحول نحو الاقتصاد الصناعي، فيردون عليك بأنَّ الدول الكبرى الممسكة بأزمة المال والتكنولوجيا في العالم، لن تسمح لدولة إسلامية بأن تنافسها أو تستغني عنها. أو ربما يقولون مثلما قال أحد تجار الغفلة السابقين: إنَّ لكل شعب قدراً ومعرفة، وقدرنا هو التجارة ومعرفتنا فيها، بخلاف المجتمعات كثيرة السكان كاليابان الذين تشيع عندهم الحرف والهندسة والصناعة، وربما يستشهد برأي عبد الرحمن بن خلدون، الذي مال إلى هذا الرأي، وقال أيضاً إن العرب ليسوا أهل حرف ولا صناعة، وإنهم ما سادوا بلداً إلا وأسرع إليها الخراب.
تبريرات الخيبة هذه شائعة في مجتمعاتنا. وسوف تجد من ينظر لها ويتوسع في الحديث حولها، حتى يُقنعَ السامعين بأن مكاننا الطبيعي هو الدرجة الثانية، أي موقع المنفعل والمتأثر، لا الفاعل ولا المتفاعل ولا المؤثر، ولو استعرنا تعبير المرحوم مالك بن نبي، فهو موقع الزبون والمستهلك، وليس موقع التلميذ الساعي لتعلم الصنعة كي يستغني عن شرائها مرة بعد مرة.
هذه التبريرات لها أصل واحد، هو الشعور بقصور الذات والخوف على الذات. وهو نقيض الميل للمغامرة. ونعلم أن تجارب التقدم في التاريخ الإنساني انطلقت كلها من مغامرات فردية، تلقفها المجتمع لاحقاً. حين تدرس تجارب التعليم في الغرب، فسوف تجد جانباً مهماً منها مكرساً لتشجيع نوعين من المغامرة: المغامرة الذهنية (أي الذهاب وراء الخيال والحلم إلى أقصى مداه) والمغامرة المادية (أي خوض التجارب التي تضع الإنسان أمام تحديات جدية وعوالم مجهولة).
أما في المجتمعات العربية فإنَّ محور التعليم هو إقناع الطالب بأن يكون «شاباً مهذباً». والمقصود بالتهذيب طاعة الأكبر منه سناً والسير على التقاليد ذاتها التي ورثها الآباء عن آبائهم، في اللغة والأخلاقيات والمعارف والمعايير وأنماط المعيشة والعمل.
لو أردنا علاجاً حاسماً للشخصية المنكمشة، المقتنعة بمقاعد الدرجة الثانية، فإن الحل يبدأ في المدرسة، أي من الجيل الجديد الذي ما زال على مقاعد الدراسة. بدل التلقين وتكرار المكررات، علينا أن نطلق خيال هؤلاء الشبان. علينا أن نلقي بهم في قلب التحدي، أن ندعهم يخوضون المغامرة في شتى تجلياتها. سيفشل بعضهم بالتأكيد، لكن الأغلب سيعود بروحية متوثبة طموحة وقادرة على مواجهة تحدي المستقبل، أي التطلع إلى مقاعد الدرجة الأولى، مهما كانت مكلفة.