د. محمد النغيمش
كاتب كويتي
TT

قائد الطائرة وركابها

عندما تدب الفوضى أو «يقع الفأس بالرأس» توجه أصابع الاتهام إلى القيادي. غير أن ذلك المسؤول لا يستطيع، في أحيان كثيرة، تحمل وزر تقاعس غيره، خصوصاً عندما يتعلق الأمر بواجباتهم التقليدية وتلك المتعلقة بحماية أرواح الناس. وهذا ما يحدث في الطائرات وفي غيرها من المؤسسات.
الطائرة هي وسيلة نقل لكنها حالة «رمزية» لمشكلات عديدة تؤكد أن اليد الواحدة لا تصفق. وأن العمل «المؤسسي» المدروس هو ما نحتاج إليه وليس انتظار همة ثلة من المخلصين لتطبيق النظام أو قواعد الأمن والسلامة ثم سرعان ما تفتر همتهم أو تتوقف فور مغادرتهم، لأنه ليس هناك نظام يضمن «ديمومة» النشاط أو حسن تطبيق القرارات. وهذا ما أدركه عملاق صناعة الطائرات الأميركية شركة بوينغ التي أطلقت مبادرة جادة يبدو أنها ستغير تجربة السفر بشكل كلي بعد جائحة فيروس «كورونا المستجد». فقد شكلت لجنة عليا لتعزيز إجراءات التنظيف والتعقيم، وقياس درجات الحرارة، واستخدام أقنعة الوجه. وتسعى إلى تقديم نظام تنقية الهواء عالي الكفاءة كالمستخدم بالمستشفيات والمصانع، يلتقط أكثر من 99.9 في المائة من الفيروسات والبكتيريا والفطريات قبل إعادة تدوير الهواء ليدخل المقصورة، وفق تقرير صحيفة «الشرق الأوسط» اللندنية.
وقد أدركت شركة بوينغ، على ما يبدو، أنه لم يعد مقبولاً ولا معقولاً الاعتماد على اجتهادات العمال أو الركاب لتعقيم الطاولات والأسطح قبل المغادرة. فبدأت تدرس بجدية تقنيات جديدة مثل التعقيم بالأشعة فوق البنفسجية، والطلاء المضاد للميكروبات على الأسطح الكثيرة الاستخدام. وقد جمعت بوينغ خبراء وبدأت بدراسات علمية ميدانية للحد من احتمالات انتقال الأمراض على متن طائراتها. ليس هذا فحسب بل سيعمل فريقها جنباً إلى جنب مع المتخصصين في السلوكيات والأمراض السارية والمعدية لوضع معايير خاصة لاتباعها على مستوى القطاع ككل.
من يتابع عالم الطيران يدرك أن كل حادثة تتمخض عن تغييرات هائلة وجادة في هذه الصناعة تماماً كما حدث بعيد حادثة 11 سبتمبر (أيلول) في نيويورك وبعد كل حادث مأساوي، فما بالنا بجائحة شلت الكرة الأرضية بشكل غير مسبوق.
وخلاصة القول، إن هذا التضافر هو ما يجب أن يحدث بعد زمن «الكورونا» في شتى الميادين، فلم يعد أحد يستطيع الانفراد بالقرار لا الجنرال العسكري، ولا شرطي المرور، والمهندس، ولا المعلم، ولا حتى الطبيب نفسه قبل أن يلتفت كل هؤلاء حولهم ليأخذوا مشورة غيرهم. فهذا الوباء «كسر شوكة» بعض المتعالين ممن يعتقدون أن باستطاعتهم حل مشكلاتهم بعيداً عن إسهامات الآخرين.
وتضافر جهود ما حدث في الطائرة لسلامة مستقبل هذه الصناعة يذكرنا بضرورة تكاتف القانونيين، والمعلمين، ورجال الأعمال، والمديرين والقياديين وغيرهم لوضع معايير عمل جديدة، وخطط طوارئ عملية، ووسائل تواصل عن بعد. والأهم دعم ذلك بلوائح وقوانين وأنظمة تضمن ما يناشد به المختصين في الإدارة من ضرورة ترسيخ بيئة العمل المؤسسي (والجماعي) المدروس، فهو وحده ما يستطيع مواجهة الأزمات. وهو ما يقربنا من تحقيق أهدافنا. والعمل المؤسسي المكتوب مهم لأنه يمكن أن يقاس ويدقق من جهات خارجية وداخلية لضمان حسن سير العمل بعيدا عن الاجتهادات والحماسة الفردية الزائلة.
وليس من المروءة توجيه أصابع النقد أو تعليق شماعة التقصير على قبطان الطائرة أو المنظمة. فمن الآن وصاعدا سنصبح كلنا مسؤولين.