وائل مهدي
صحافي سعودي متخصص في النفط وأسواق الطاقة، عمل في صحف سعودية وخليجية. انتقل للعمل مراسلاً لوكالة "بلومبرغ"، حيث عمل على تغطية اجتماعات "أوبك" وأسواق الطاقة. وهو مؤلف مشارك لكتاب "أوبك في عالم النفط الصخري: إلى أين؟".
TT

أبريل الأسود والموت الأسود

يصف المدير التنفيذي لوكالة الطاقة الدولية، التركي فاتح بيرول، شهر أبريل (نيسان) الماضي بأنه «أبريل الأسود»، إذ سوف نتذكر جميعاً بعد سنوات هذا الشهر على أنه كان الشهر الأسوأ، في السنة الأسوأ، في تاريخ الصناعة النفطية. وأحب أن أضيف هنا كذلك أننا سوف نتذكر يوم الاثنين 20 أبريل على أنه «الاثنين الأسود» الذي هبطت فيه أسعار النفط لأول مرة في التاريخ تحت الصفر بنحو 37 دولاراً.
كل هذا الحديث عن الفترات السوداء يجعلني أتذكر الموت الأسود «الطاعون» الذي ضرب أوروبا مطلع القرن الرابع عشر وقضى على ثلث القارة الأوروبية في أقل التقديرات. وحسب التوقعات المختلفة فهناك بين 50 و200 مليون شخص كانوا ضحية لهذا الوباء أو الجائحة.
ما علاقة الموت الأسود بما يجري اليوم وبجائحة «كورونا» وبعالم النفط؟ ببساطة هذه الأوبئة التي تحصد حياة الملايين تترك أثاراً اجتماعية واقتصادية عميقة تشكل الحياة التي تزدهر بعدها بشكل كبير. كل شيء يتغير من أنماط العيش إلى السلوك الإنساني، والحياة الاجتماعية والثقافية والدينية.
لكن ما الذي جعلني أختار الطاعون الأسود تحديداً من بين كل الجائحات التي هزت التاريخ البشري؟ هناك شبه كبير جداً بين نشأة «كورونا» وطريقة انتشارها وبين ما جرى مع الطاعون. أولاً، حسب بعض المصادر التاريخية، فقد نشأ هذا المرض في آسيا وانتقل إلى أوروبا عن طريق السفن التجارية القادمة من البحر الأسود إلى صقلية في إيطاليا.
وارتبط هذا الوباء اللعين بالفئران التي كانت الناقل الأول له، حيث كانت هذه الفئران تعيش على السفن التي جاءت إلى صقلية محملة بالحرير والكثير من المنتجات الآسيوية.
وأدى انتشار هذا المرض إلى ظهور مصطلح (الكوارنتين) أو الحظر كما نعرفه اليوم، وهذه الكلمة قادمة من احتجاز البحارة على ظهر السفن لمدة ثلاثين يومياً (ترينتينو) ثم تم زيادتها إلى 40 يوماً أي (كوارنتين). هذه الكلمة وجدت طريقها إلى المجتمعات البشرية منذ ذلك اليوم إلى الآن بل إن هناك أحد الأحياء القديمة في مدينة جدة في السعودية يطلق عليه حي المحجر الصحي، وهناك جزء منه يُعرف باسم «الكرنتينا» وهي مشتقة من كلمة كوارنتين. وهذا دليل على عمق الأثر الثقافي الذي تركه ذلك الوباء على العالم ككل.
كل هذا يذكّرني تقريباً بما يحدث اليوم مع «كورونا» حيث ارتبط في ذهن الناس بطائر الخفاش، وضرب إيطاليا بشكل موسع في البداية أكثر من أي بلد أوروبي آخر وانتشر فيه وانتقل منه إلى غيرها.
وبعد أن شرحت سبب اختياري للمقارنة بين هذين الحدثين، أود الحديث عن الأثر الذي تركه الموت الأسود والسيناريوهات المحتملة التي قد يتركها «كورونا» والتي قد تترك أثراً كبيراً على مستقبل النفط لسنوات.
لن أتطرق إلى الجوانب الثقافية وسوف أركز على الجوانب الاقتصادية وقليل من الجوانب الاجتماعية. لقد أسهم الموت الأسود في تسريع تدمير نظام اقتصادي وسياسي كامل وهو الإقطاع، حيث قل عدد البشر وزادت الأراضي الزراعية، مما أدى إلى ارتفاع أجور المزارعين مع ندرتهم. ومع السنوات أصبحت هناك مقاومة شديدة من الإقطاعيين أو ملاك الأراضي لزيادة الأجور، مما أدى إلى ثورات عديدة ضدهم أدت إلى انهيار النظام على مدى العقود اللاحقة.
وبسبب قلة المزارعين انتقل العديد منهم من الاعتماد على وسائل الزراعة التقليدية التي تعتمد على الأيدي الكثيرة، مثل زراعة الحبوب، إلى تربية المواشي التي تتطلب قوة عاملة أقل، ونتيجة لذلك زادت كمية المعروض من اللحوم في الأسواق الأوروبية وأصبحت دول مثل ألمانيا وغيرها تصدر الزبدة والمنتجات الحيوانية ومشتقات الألبان إلى الدول المجاورة.
وبسبب تغير القواعد الثقافية للمجتمع الأوروبي تأثرت الحياة الاجتماعية كذلك وانتقلت أوروبا إلى بداية عصر العلم وخروجها من القرون الوسطى المظلمة ودخولها ما يعرف باسم عصر النهضة.
ولهذا لا ينبغي أن نغفل الأثر الكبير المتوقع لما يحدث اليوم. إن طرق العمل بدأت في التغير مع «كورونا» وسوف يتجه كثير من الشركات إلى أساليب عمل جديدة عن بُعد، وقرأنا قبل أيام قرار شركة «تويتر» تحويل كل موظفيها إلى العمل من المنازل إلا لأولئك الراغبين في القدوم إلى مكاتبهم. ولا أستبعد تسريع التحول الرقمي في الكثير من المجتمعات واعتماد الكثيرين على أنظمة التجارة الإلكترونية التي أثبتت فاعليتها وبداية انكماش الكاش أو النقد في الاقتصاد.
وهنا أحب أن أذكّر الجميع بأن الفيروسات لا تنتهي، بل تعيش معنا ونحاول التعايش معها. إذ بعد الموت الأسود ظل الطاعون لسنوات طويلة ثم عاد من جديد ليضرب لندن بعد 300 عام. ومنذ ظهور الإيدز (وباء آخر مرتبط بالحيوانات وتحديداً الشمبانزي الأخضر) وهو مقيم معنا إلى اليوم وأدى إلى تغير كبير في طريقة المعاشرة الجنسية وزرع مخاوف كثير من المعاشرة غير الآمنة مع الغرباء.
وقد يعيش «كورونا» معنا لسنوات طويلة وقد يتحول إلى أشكال أخرى وقد نضطر إلى التعايش معه، وهذا يعني أن العالم قد لا يعود مثلما كان من قبل.
ماذا يعني هذا للنفط؟ بعد عشر إلى عشرين سنة من الآن لا أستبعد أن يخفّ الطلب كثيراً من قطاع النقل مع انتقال المجتمعات تدريجياً إلى العمل من المنازل وقلة استخدامهم للسيارات. أما قطاع النقل الجوي فسوف يظل متأثراً على المدى القريب لحين اكتشاف علاج للفيروس. ومن دون الدخول في الأرقام وحجم الانخفاض المتوقع، هناك رسالة يجب على دول منظمة البلدان المصدرة للبترول (أوبك) ودول الخليج تحديداً معرفتها، وهي أن الواقع في السنوات القادمة لن يكون جميلاً لها.
لقد نجونا من أزمات كثيرة كانت أخرها الأزمة الآسيوية في 1997 والأزمة المالية في 2008، ولكنها كما يقول محمد العريان عنها «أزمات مالية» تسبب نوبات قلبية ونعود بعدها لإنعاش القلب، ولكن هذه الأزمة اقتصادية ضربت الجسم كاملاً. وما زلت أتذكر كلمات الراحل الملك عبد الله بن عبد العزيز في حديثه لإخوانه رؤساء دول الخليج، في القمة الخليجية التي تلت الأزمة الآسيوية وتحذيره للجميع بأنهم يجب أن يفعلوا شيئاً للاعتماد على شيء آخر غير النفط. أتمنى أن تجد هذه الكلمات طريقها إلى المجتمعات اليوم بعد مرور كل تلك السنوات.
وهناك العديد من الإجراءات التي يمكن لدول الخليج أخذها متّحدة لتقوية اقتصاداتها من تنويع سلاسل الإمدادات والاعتماد على التبادل التجاري بينها بشكل أكبر والدخول في مشاريع مشتركة. وبالأخير أتمنى نجاح الخطط الطموحة مثل «رؤية السعودية 2030» و«كويت جديدة» بحلول 2035 لجعل اقتصاد الخليج أكثر مرونة. صحيح أن الشباب اليوم لا يبدو عليهم أنهم قادرون على هذا التغير، ولكني على يقين أنه خلال 10 سنوات من الآن سنرى جيلاً آخر غير الذي نراه اليوم يقود هذه الخطط لكنهم يحتاجون للدعم والتوجيه فقط. والإيمان أن ترى النور في قلبك حتى وإن كانت عيناك لا ترى سوى الظلام، وأنا صدقاً مؤمن بالشباب الخليجي.