كانت الأسابيع القليلة الماضية فرصة بديعة لمن كان في مثل حالي، حال من يريد أن يتأمل في هدوء ووقت كافٍ عالماً يتغير. عشت، كما عاش غيري، في تفاصيل عالم أشعر بأنني أفقده شيئاً فشيئاً. لا يعذبني احتمال فراقه، وإن باتت تقلقني الفوضى المصاحبة لرحيله. جربناه وكان سخياً في التجارب. أتحدث عن نفسي وعن علاقة بدأت مبكرة.
أعرف كثيرين بدأوا علاقتهم به في الوقت ذاته، بعضهم قضاها على هامشها. لم يطّلعوا، ولو من بعيد على تفاصيل العالم الذي وُلدوا فيه ونشأوا. اكتفوا بالسعي لجني أرباح علاقتهم به. يفرحون بما جنوا ويطمعون فيما هو أكثر ويندمون على ما فقدوا وعلى فرص ضاعت.
أغلب الأصدقاء وعديدون من رفاق دروب حياة سلكناها معاً سمعتهم خلال الأيام الأخيرة يطرحون تصورات عالم قادم. وبينما هم يتسابقون في هذا المضمار لم ينسوا تحميل العالم القديم مسؤولية الغم الذي حلّ بهم وبنا.
يعتقدون ويعلنون أن العولمة التي هبطت علينا بعد منتصف القرن الماضي خلّفت لنا عند انسحابها وضعاً مركباً ومعقداً. لولاها ما كانت الصين التي نعرفها الآن قطباً دولياً صاعداً نحو القمة، وواعٍ تماماً لكل التحولات التي ترتبت عن هذا الصعود الذي وقع بسرعة صاروخ عابر القارات. انتهت هذه المرحلة.
دخلنا مرحلة جديدة. سمعت مؤخراً أميركياً يعتذر للعالم، ولأميركا أولاً، عن مجيء دونالد ترمب رئيساً مكلفاً تفكيك العولمة التي حسب رأيه صارت عبئاً على الاقتصاد الأميركي ومكانة أميركا ومكانها في قمة النظام الدولي. وبمرور الوقت وضمن تحولات أخرى نسمع الآن الدعوة إلى العودة إلى «المحلي جداً» ونبذ «العولمي». تريد الولايات في أميركا ممارسة حريتها في اتخاذ قرارات تخصها وترفض أن تتدخل فيها الحكومة الفيدرالية في واشنطن. بل تابعنا زيادة صريحة في وعي الكنتونات المحدودة المساحة والسكان وحاجتها إلى أن تتولى بنفسها حل مشكلاتها المحلية. من ناحية أخرى قرأنا لمحللين بباع طويل في الديمقراطية يحذّرون من عالم قادم تطغى فيه السلطوية الشعبوية على ما عداها. قادة لا ينقصهم الإخلاص يطلبون سلطات بلا قيود أو حدود، حجتهم الرسالة التي حملها الفيروس من عالم مجهول إلى عالم اعتقد الكثيرون خطأً وبالغرور أنه معروف، فوقعت الكارثة.
ثم جاءنا من الصين من ينقل لنا عبر الأثير جانباً من نقاش حامي الوطيس داخل قيادة الحزب الشيوعي يعيب التدخل المتزايد من جانب قيادات عليا في تفاصيل عمل الفروع المحلية للحزب في أرياف الصين ومواقع العمل والبحث العلمي فيها. الضغط الدولي من الخارج يستهدف من هم، أو ما هو، أكبر بكثير من أعضاء محليين في مركز للبحث في ووهان. رؤوس عديدة سوف تسقط قرابين لمحو التشوه الذي أصاب سمعة القوة الرخوة للصين. قرابين أخرى على مستويات عالية في عشرات الدول في الشرق كما في الغرب، وفي الغرب أكثر، تستعد للرحيل بعد سقوطها في أول امتحان لها أمام العدو القادم من عالم لا نعرفه وبنيّات ما زلنا نجهلها.
في هذا السياق تدار حوارات جادة ووقورة في مواقع عديدة حول موضوع الشرق الأوسط. قيل بين ما قيل إن أهل الشرق الأوسط معذورون إنْ هم اختاروا «العولمة» وفضّلوها منهاج سياسة خارجية عن منهاج «الإقليمية». ذريعتهم أن الشرق الأوسط باعتراف كل المؤرخين مهدٌ لجميع الأديان السماوية، يعني محكوم عليه بالعولمة عقيدةً أو منهاجاً شاء أهله أم أبوا، محكوم عليه أن تمتد وشائجه، كلها إنْ أمكن، إلى خارج حدوده. يعني أيضاً أن الإقليمية لا تشبعه ومن ناحيتها هي لا تتسع له، تضيق بمطالبه وتنوء بحمله. لا جديد في هذا.
أهل الشرق الأوسط ربما تعوّدوا على هذه المعادلة المعوجّة. هكذا عاشوا في ظل الإمبراطورية العثمانية قرناً بعد قرن، وفي ظل الاستعمار الأوروبي لنصف قرن أو ما يزيد. حينها، وللحين، كان الأمن والاستقرار الإقليمي وديعة لدى الخارج. لم يحدث أن مارس الشرق الأوسط وحده ولنفسه مسؤوليات الأمن والاستقرار. الخارج دائماً موجود من أجل الشرق الأوسط. سمعت قبل يومين مفكرين يتحاورون في مستقبل الشرق الأوسط. ذكر أحدهم عرضاً جامعة الدول العربية ولم يعد هو أو غيره إلى سيرتها على امتداد ساعات الحوار. وللحق لم يتوصلوا إلى صيغة لمنظومة إقليمية بديلة.
يتردد في الحوارات أن الوضع العادي للشرق الأوسط سوف يتحقق عندما تنشأ في العالم الخارجي منظومة هرمية الشكل تتسع قاعدتها المحلية لمعظم الخدمات الأولية والبسيطة ومنها أجهزة رعاية اجتماعية وصحية وتعليمية تكون عند حدها الأدنى ضرورية وإنْ غير كافية، وعند القمة تتربع الدول العظمى الموقِّعة على ميثاق يؤكد ويضمن نية أعضاء المنظومة في توثيق التعاون بين الحكومات كافة والمجتمع المدني وعند كل درجات الهرم. في مرحلة أخرى وبعد وقت مناسب سوف ينضج الشرق الأوسط. أراه وقد صار أهلاً لمنظومة إقليمية خاصة به ونابعة من إرادة إقليمية.
ليس المهم الآن أن نكون في انتظار عالم مختلف جذرياً عن العالم الذي فيه وُلدنا وعلى جنباته نشأنا. المهم، في رأيي، أن نعرف أن فيروساً دخل عالمنا الذي لا نعرف غيره، حتى الآن على الأقل، وأحدث فيه ما أحدثه ثور اقتحم محلاً لبيع الخزف. كل الدلائل تشير إلى أننا كبشر كنا، رغم الوفرة الهائلة في قوانا الصلبة والرخوة، خزفاً قابلاً للكسر أمام زحف جحافل فيروس «كورونا».
أتصور على ضوء ما رأيت وقرأت وسمعت خلال الشهور الماضية أن الفيروس نجح فيما فشل فيه بشر كثيرون. نجح الفيروس في كسر غرورنا، نحن بنات وأبناء آدم وحواء. أعترف، وكثيرون أبدوا شهاداتهم، بأننا تجاوزنا في تصرفاتنا وإشباع رغباتنا كلَّ القيم والمبادئ وما اصطلحنا عليه من مواثيق مقدسة أو مدنية.
ركِبَنا غرورٌ بلا حدود. كان يكفيني لأقتنع بتصوراتي عن مصائرنا نتيجة غرورنا أن أستمع إلى أقوال الرئيس الأميركي. الرجل بغروره كاد يودي بأميركا إلى السقوط. ما زلت على كل حال أتوقع لها درجات من السقوط. لم يكن ترمب أول الخاسرين ولن يكون.
أمامنا على الشاشات وفي المؤتمرات الحصينة قادة دول، عشرات منهم، يمشون ويجلسون ويتخاطبون مكسوري الجناح. كسر الفيروس غرورهم وجناحهم.
7:44 دقيقه
TT
الفيروس كسّار الغرور
المزيد من مقالات الرأي
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة