عادل درويش
صحافي معتمد في مجلس العموم البريطاني، وخبرة 55 عاماً في صحف «فليت ستريت». وكمراسل غطى أزمات وحروب الشرق الأوسط وأفريقيا. مؤرخ نشرت له ستة كتب بالإنجليزية، وترجمت للغات أخرى، عن حربي الخليج، و«حروب المياه»؛ أحدثها «الإسكندرية ، وداعاً: 1939-1960».
TT

ذهنية التحريم

ربما بعكس ما يتخيل القارئ من العنوان، ليس المقصود تحريم رجال الدين لما يخالف مواعظهم، وإنما تحريم علمانيين يساريين لفكر يخالف الأرثوذوكسية «التقدمية»، التي فرضوها على وسائل البث والنشر. ما يبدو تناقضاً هو انتشار ذهنية التحريم في بريطانيا، أكثر المجتمعات انفتاحاً ديمقراطياً وتقديساً لحريات الرأي والتعبير والملبس والعقيدة؛ أما حرية الصحافة، فهي ركن أساسي في ديمقراطيتها. فالاختلاف والتنوع طبيعة هياكل البنيان الديمقراطي. الديموراطية ترتقي بإقناع العموم بقبول سياسات نظام الحكم القائم، أو ما يعرف بالإجماع القومي العام، وهذا بدوره يتطلب الجدل أو الحوار العام المفتوح على مستوى الوطن، وبالضرورة التعدد والاختلاف.
ويبدو أن هناك علاقة ترابط عكسي بين ارتفاع أصوات المحرمين (بكسر الراء)، وبين انغلاق المجتمع. فقبل أن تغلق احتياطات انتشار «كورونا» وسائل ومجالات النشاطين الاقتصادي والاجتماعي، أرغمت ذهنية التحريم اليسارية منابر التعبير العمومية على مقاطعة مخالفي فكر القطيع الليبرالي السائد في مجالات البيئة، والحركة النسوية والإجهاض عند الطلب، لا لسبب طبي. لكن في زمن «كورونا» تطورت إلى الرقابة الذاتية. فنسبة وفيات السود والأقليات العرقية من «كورونا» تفوق ثلاثة أضعاف نسبتها بين البيض. الخبراء والمعلقون والساسة يطرحون تفسيرات وأسباباً عديدة، منها الفقر وسوء الأحوال الاجتماعية للأقليات، ومشاركتهم في الخطوط الأمامية في التمريض وأعمال النظافة والخدمة (رغم وجود النسبة نفسها بين أثرياء وفقراء الأقليات العرقية على السواء)، ما عدا تفسيراً واحداً لم يطرحه أحد أبداً، ولو بشكل تساؤلي، وهو تباين التركيبة الوراثية والحامض النووي للإثنيات المختلفة، أو كحال مضاعفة نسبة الوفيات بين الرجال لمثيلتها بين النساء. والأخيرة ناقشتها ورقة في دائرة طبية مغلقة عن احتمال وجود المناعة على كروموزوم «إكس» المكرر عند النساء (إكس - إكس)، وغيابها من كروموزوم «واي»، والرجال (إكس - واي). الورقة لم تنشر علناً ـ فمناقشة الاختلافات البيولوجية بين الجنسين، أو بين العرقيات، من المحرمات ليبرالياً.
لكن ذهنية التحريم توسعت لدائرة أشبه بالخيال. حصار «كورونا»، الذي تفرضه وزارة الصحة (بقانون الطوارئ الصحية) بمسافة التباعد الاجتماعية أو مسافة الوقاية، أدى إلى تغيير الأسلوب المعتاد لمراقبة الرأي العام لأداء الحكومة والمسؤولين ولجان البرلمان، فانتقلت من برامج شؤون الساعة والاستوديو والنقل المباشر من قاعات مجلس العموم إلى فضاء الإنترنت. تحولت المقابلة الاستجوابية، أو الجدل في مجلس العموم، أو مساءلة اللجنة البرلمانية، المبثة تلفزيونياً من القاعات المعتادة إلى النقل عبر خدمة «سكايب»، أي الظهور أمام الناخبين من الدار، وهو ما لم يعتده معظم الساسة والمسؤولين.
وتحضرني نصيحة الهوانم المحافظات من جيل أمي، الذي شاهد متغيرات أدخلتها حربان عالميتان في ربع قرن على المجتمعات، محذرات من «محدثي النعمة»، أي الذين وجدوا بين أيديهم ثروة أو نفوذاً أو وسائل قوة جديدة هبطت عليهم، بلا مقدمات، فيسيئون توظيفها، ليكون تأثيرها ضاراً على أنفسهم، وعلى الآخرين.
قبل انغلاق «كورونا»، كان المتحدث، مسؤولاً أو رجل سياسة أو عالماً بشؤون سياسات الصحة، يدرك أن كاميرات التلفزيون تنقل مشاركته للملايين، فيوظف ما يجده من قطعة أثاث أو منبر أو موقع كمصدر دعم لمسوغاته السلطوية وإثبات أهليته. كالحديث من «صندوق السلطة» (despatch box) في مجلس العموم، أو من مكتبه في الوزارة بجانب علم البلاد، أو إذا كان طبيباً مثلاً من داخل المستشفى (والناس دائماً يثقون بالطبيب). فماذا يفعل والمقابلة من داره، حيث لا سلطة له؟ وأي قارئ متزوج يعرف أن الحاكم الفعلي في الدار هو الهانم، ولا نفوذ عملي للرجل في المكان.
وجدوا الحل في أرفف الكتب التي يضع المسؤولون من «محدثي نعمة (سكايب) وبرنامج (زووم)» كاميرا الكومبيوتر أمامها، مستنداً إلى الإيهام بقوة المعرفة كمصدر للسلطة. وكلما توغلت بريطانيا في أسابيع عزلة «كورونا»، ازدادت الكتب حجماً وعدداً، في سباق تنافس بين الساسة من صاحب أكبر دولاب كتب ومن أرفف كتبه أكثر ارتفاعاً؟
المفارقة أن المعلقين المحترفين من صحافيين وكتاب، بلا اتفاق مسبق، نقلوا كاميراتهم من غرفة المكتب إلى غرفة السفرة العارية من الكتب، استقلالاً بأنفسهم عن دائرة محدثي نعمة المشاركة التلفزيونية وكتبهم الظاهرة، التي أوحت لفقهاء ذهنية التحريم الليبرالية باختراع إضافة جديدة.
معلقو اليسار الحنجوري البريطاني بدأوا الهجوم عبر وسائل التواصل الاجتماعي، الأسبوع الماضي، على المسؤولين المحافظين، ليس بسبب سياستهم، أو تقصير حكومتهم في الاستعداد مبكراً لاحتواء الوباء، أو حتى لمضمون تصريحاتهم، بل احتجاجاً على نوعية الكتب المرصوصة وراءهم، أي اتهامهم بالإعجاب بفلاسفة وكتاب صنفهم اليساريون رجعيين أو فاشيين أو نازيين. وتهمة النازية دائماً ما يلصقها محتجو اليسار بمن يخالفونهم الرأي، عندما يفشلون في مقارعة جدلهم بحجة مقنعة. أي أنها رقابة على ما يعتقد محتكرو الفضيلة والرأي الصائب أن خصومهم يفكرون فيه.
قبل تسونامي تغريدات جحافل اليسار، اعتقدت، عند قراءة أول تغريدة احتجاج على الكتب من صحافي شاب، أنها نكتة ذكرتني بمسرحية «بكالوريوس في حكم الشعوب»، للمسرحي المصري الساخر الراحل علي سالم (1936 - 2015) وضابط البوليس فيها يذكر الطالب المتمرد بعبقرية أبيه المخبر الراحل في كشف المعارضين للنظام، بمجرد أن ينظر من ثقب المفتاح «فيعرف إللي جالسين في الغرفة بيفكروا في إيه».
الهجوم كان على وزير شؤون مجلس الوزراء مايكل غوف، وهو مثقف حقيقي، فقد بدأ حياته صحافياً في «التايمز» قبل دخوله البرلمان، ومن مئات الكتب الظاهرة وراءه اختار اليساريون كتب الفيلسوفة الأميركية الروسية أليسا زينوفينا روزينباوم (1905 - 1982)، ونشرت تحت اسم أيين راند، مروجة للفردية وحرية رأس المال؛ أو كتب ديفيد إيرفينغ الذي يشكك في «الهولوكوست». اليساريون خمنوا أن الوزير غوف ينشغل ذهنه بأمور حرموا مجرد التفكير فيها. الكاتب اليهودي ستيفن بولارد، رئيس تحرير صحيفة «الجويش كرونيكيلز» غرد رداً على الصحافي اليساري: «ستجد في مكتبتي مؤلفات إيرفينغ مع مؤلفات هتلر وزعماء النازية، بجانب كتابك الأخير».
ولو اطلع زعماء التحريم الذين يريدون توسيع دائرة المحرمات، لتشمل ما نقرأه في خلوتنا، على الكتب في مكتباتنا لكنا جميعاً مذنبين. وإذا كانت كتبي، التي لا أعرف عددها، هي دليلي العقائدي، فلا بد أنني أفلاطوني وأرسطي، ورجعي وتقدمي، ومحافظ وثورجي معاً كجلمود صخر حطه سيل القراءة من علٍ.