سليمان جودة
رئيس تحرير صحيفة «الوفد» السابق. كاتب العمود اليومي «خط أحمر» في صحيفة «المصري اليوم» منذ صدورها في 2004. عضو هيئة التحكيم في «جائزة البحرين للصحافة». حاصل على خمس جوائز في الصحافة؛ من بينها: «جائزة مصطفى أمين». أصدر سبعة كتب؛ من بينها: «شيء لا نراه» عن فكرة الأمل في حياة الإنسان، و«غضب الشيخ» عن فكرة الخرافة في حياة الإنسان أيضاً.
TT

صورة ترسمها واشنطن على جدار الوباء!

آخر الأنباء القادمة من الصين هذه الأيام، تقول إن أكبر جهاز استخباراتي في البلاد وضع تقريراً أمام أعلى السلطات، وأنه يرصد في التقرير تصاعد موجة من العداء عالمياً تجاه بلاده، وأن هذه الموجة تقترب في قوتها من الموجة العدائية التي كانت قد تصاعدت ضد بكين، وقت أن قامت الحكومة الصينية بقمع المتظاهرين في أحداث الميدان السماوي الشهيرة عام 1989!
ولا يتوقف التقرير عند هذا الحد، ولكنه يذهب إلى التحذير من عواقب هذه الموجة من العداء، التي يمكن أن تؤدي في النهاية إلى مواجهة صينية مع الولايات المتحدة!
وحين تتأمل المعاني الواردة في التقرير، ثم تربط بينها وبين الحاصل أمامك، منذ بدء ظهور وانتشار فيروس «كورونا»، يتبين لك أن ما تعمل واشنطن على ترويجه حول الفيروس، يبدو كأن له وجهاً آخر يختلف عن الوجه الظاهر أمامنا، وأن للقصة من جانب إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترمب هدفاً آخر أيضاً. هدف مختلف يتخفى وراء هذه المناوشات التي لا تتوقف مع الجانب الصيني على مستويين أميركيين بالذات؛ مستوى ترمب في الكثير من تصريحاته ومؤتمراته الصحافية، ثم مستوى وزير خارجيته مايك بومبيو!
فالرئيس الأميركي لا يترك مناسبة منذ غزا الوباء بلاده ومعها العالم، إلا ويشير بشكل مباشر إلى أن الصين مسؤولة عن نشر الفيروس في أنحاء الأرض، وأنها أخفت عن العالم معلومات مهمة عن «كورونا» منذ بدء ظهوره على أرضها، وأنها لا تزال تتستر على الكثير من البيانات التي يمكن أن تفيد في رحلة مطاردة الوباء، سعياً في غاية المطاف إلى القضاء عليه!
يقول الرئيس ترمب هذا ويكرره باستمرار، ولا يعنيه أن تظل الحكومة في بكين تنفي ما يقوله على الدوام وتؤكد عدم صحته، فهو لا يتوقف عن عزف النغمة ذاتها، والصين في المقابل لا تكف عن نفي ما يصدر عنه بهذا الشأن، ثم لا تكف عن دعوته إلى تقديم دليل واحد يثبت صواب ما يقول، وهو من ناحيته لا يقدم دليلاً، ولا يلتفت إلى المبدأ القانوني الشهير الذي ينظم العلاقة بين الأفراد من الناحية القانونية، والذي يقول بأن البينة دائماً على مَنْ ادعى وأن اليمين على من أنكر!
هو مبدأ ينظم العلاقة بين الأفراد عند التقاضي في قاعات المحاكم، وأظن أنه من حيث معناه يصلح للانتقال من مستوى الأفراد المتقاضين، إلى مستوى العواصم في مثل هذه الحالة التي تشتبك فيها واشنطن مع بكين حول المسؤولية عن انتشار الوباء!
وقد بالغ الرئيس الأميركي في إصراره على تعليق المسؤولية في رقبة الصين، إلى حد أنه في مرحلة من المراحل راح يطلق على «كورونا» مسمى الفيروس الصيني!
ولا يختلف عنه وزير الخارجية كثيراً، وكانت آخر المرات التي عاد فيها للموضوع، عندما تحدث إلى محطة «إيه بي سي» التلفزيونية أول الأسبوع، فقال إن لدى بلاده أدلة هائلة على أن الفيروس خرج أول ما خرج من مختبر في مدينة ووهان الصينية، التي شهدت انطلاقة للمرة الأولى في ديسمبر (كانون الأول) من العام الماضي. قال بومبيو هذا الكلام بصراحة وبدون مواربة، ولكن لا أحد يستطيع أن يعرف عدد هذه الأدلة التي يلوّح بها الوزير الأميركي في وجه الحكومة الصينية، ولا مدى وجاهة كل دليل فيها، وإنما الذي نعرفه أنه لم يكشف عن دليل واحد فيها، وأنه فقط لوّح بها، وأن التلويح بها لا يعني وجودها بالضرورة، وأن حديثه عنها يظل حديثاً مطلقاً إلى أن يكشف عنها ويضعها أمام الرأي العام في العالم!
وما يلاحظه المتابع للقضية أن وزارة الدفاع الأميركية لا تتبنى هذا الرأي، وأنها أكثر تحفظاً عند الحديث في الموضوع نفسه، وأنها تتبنى رأياً يقول إن انطلاق الوباء من الصين يمثل حقيقة، وإن هناك حقيقة أخرى إلى جوارها تشير إلى أن انطلاقه كان من الطبيعة ولم يكن من مختبر!
هذا الانقسام في الملف أميركياً، يضع الوجه السياسي للإدارة الأميركية في جانب، متمثلاً في البيت الأبيض وفي وزارة الخارجية، ويضع الوجه العسكري في جانب آخر في المقابل، متمثلاً في وزارة الدفاع التي تغض البصر عن تقدير ترمب كلما وجدت نفسها مدعوة إلى الإدلاء برأي في القضية!
ولم تكن الحملة التي قادها ترمب على منظمة الصحة العالمية، بعيدة عن هذه الدائرة، فهي حملة كانت تستهدف الصين بالأساس، ولم تكن المنظمة سوى أداة في معركة دائرة، لأن التهمة الموجهة إليها طوال الحملة كانت هي التواطؤ مع السلطات الصينية في إخفاء معلومات حول الوباء، أكثر منها تهمة تتعلق بسوء إدارة حركة الفيروس على يدها كمنظمة مسؤولة!
هذا كله لا يمكن فصله عن المعركة الأم بين البلدين على الموقع الأول في العالم، فهو موقع تهيمن عليه الولايات المتحدة، منذ سقط الاتحاد السوفياتي في بدايات العقد الأخير من القرن الماضي، وتنافسها عليه الصين منذ أزاحت اليابان من المرتبة الاقتصادية الثانية واحتلت مكانها، ثم راحت تزاحم واشنطن على الموقع الأول ذاته!
وقد بدا مع إغلاق العالم عند انتشار «كورونا» في أركانه الأربعة، أن العواقب الاقتصادية السلبية على اقتصادات شتى الدول كبيرة، وأنها على اقتصاد الصين أكبر، وأن هذا سيعطلها عن اللحاق بالولايات المتحدة، فضلاً عن الجلوس في مكانها. ولكن الحكومة في بكين سرعان ما تمالكت أمرها، وسرعان ما سيطرت على الفيروس بنجاح لافت، وسرعان ما استوعبت ضربة الوباء في رأس اقتصادها، وسرعان ما بدا الاقتصاد الصيني متوجهاً بقوة نحو احتواء ما جرى وتعويض ما فاته وأكثر!
وغالب الظن أن هذه نقطة فاصلة انتقلت عندها إدارة الرئيس ترمب، من مرحلة كانت تراهن فيها على «كساح اقتصادي» يمكن أن يصيب الصين ولم يحدث، إلى مرحلة تالية كان أساس الرهان فيها هو على أثر ما يشيعه ترمب حول مسؤولية ووهان عن نشر «كورونا» في مختلف الدول، وما يروجه بومبيو عن أدلة تدعم هذه الفرضية وتمدها بأسباب البقاء!
ولعلنا نذكر أن ما يقول به الرئيس والوزير الأميركيان، كان يتوازى مع فيديوهات متوالية كانت تنتشر عن النظافة الغائبة في سوق الحيوانات القريبة من مختبر ووهان، وعن النظافة الغائبة أيضاً في أطعمة كثيرة يتناولها الصينيون. والظاهر أمام المتأمل فيما يجري أن الهدف الخفي في الحالتين، هو ترسيخ صورة ذهنية سلبية عن حياة الصينيين في العموم، وخلق حالة من النفور لدى شعوب العالم مما تشهده هذه الحياه من ممارسات متنوعة، وكلها في النهاية تخلق فجوة في المشاعر الجماعية لدى الشعوب تجاه الصين، وتجردها من صفات قيادية تحتاج إليها ضمن مؤهلات الدور السياسي الأول الذي تطمح إليه بين الدول!
هذا ما يبدو وراء ما يجري أمامنا، فالاقتصاد الصيني يستطيع أن يستعيد عافيته بسرعة كما نرى من الأخبار الواردة من هناك، ومشروع الحزام والطريق الذي توقف مع بدء شيوع الفيروس، يمكن أن يستأنف السعي إلى غايته من جديد، ولكن الصورة الذهنية التي ترسمها اتهامات الرئيس ترمب مع وزير خارجيته، يصعب جداً إحلال صورة إيجابية مغايرة في مكانها!
أو هكذا يتصور العقل هذا الأمر في مجمله ويتخيله!